كان متبقياً يومين فقط لوصول ابنتها. كانت مولكي تكاد أن لا تُصدّق. كانت قد نظرت ملياً, قرأت و أعادت قراءة الرسالة الالكترونية الأخيرة التي كانت قد أرسلتها الفتاة من نيروبي:" سوف أصل في يوم الثلاثاء, الخامس عشر من يناير\ كانون الثاني, في الساعة الثامنة, إلى مطار ليوناردو دا فنشي في روما, على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية القطرية, من دبي". كانت تبتسم و هي تقرأ تلك الكلمات: كانت هي التي اشترت و بعثت تلك التذكرة, بعد أن أرسلت لها كل الوثائق, أخيراً سارية المفعول. كانت قد دققت ألف مرة في مواعيد الانطلاق من نيروبي و موعد الطائرة التي كانت ستقلها من دبي إلى روما. تلك العملية كانت قد كلفتها وقتاً و مالاً كثيراً:ساعات طويلة من الانتظار لدى مكاتب قسم الشرطة, طوابع مالية, نُسَخْ و نُسَخْ مصوّرة من كل صفحة, "من الأمام و من الخلف" لكل وثيقة, و ثم المرات الكثيرة التي اضطرت فيها الاستعانة بأحمد رغماً عنها, ممثل الجالية الصومالية, لكي لا تفشل محاولتها هذه كما حدث في المرات السابقة. تارة كانت تنقص وثيقة, و تارة توقيع, و تارة أخرى الدخل لم يكن كافياً, و أخرى كانت بعض الوثائق قد فُقدَتْ في أحد المكاتب الكثيرة. الحاصل, أكثر من مرة كانت مولكي قد تخلت عن ذلك التواصل العائلي: في كثير من الأحيان, خلال المحاولات الأولى, كانت قد ارتكبت أخطاء, لقلة تجربتها, مع ذلك, وجدت نفسها أمام قوانين كانت قد تغيرت, ليس نحو الأفضل. في مرات أخرى أيضاً, بالضبط في اللحظة التي كان كل شيء فيها يسير على ما يرام تقريباً, كانت قد فقدت عملها, و بالتالي اضطرت للبحث عن عمل آخر, و مسكناً أيضاً, لأن أقرباء السيدة التي كانت ترعاها, لشهور طويلة, ليلاً و نهاراً, مانحة نفسها ساعات قليلة جداً من الحرية, ألمحوا لها أنه يجب عليها أن تخلي الغرفة التي تحتلها خلال فترة قصيرة من الزمن. "يجب أن نبيع الشقة, يا مولكي: هذا يؤسفنا!". ولكن كل شيء مختلف الآن: البيت الذي كانت تعيش فيه منذ أكثر من سنة, كان ملكها: بيت مؤلف من غرفة واحدة يغمره الضوء, مع نافذتين تدخل منهما الشمس و السماء تبدو من خلالهما قريبة جداً لدرجة يمكن لمسها. كان يبدو و كأن كل المدينة تتدرّج تحت أقدامها, و هي كانت قد تمكنت أيضاً, ببناء مظلة بسيطة من الخشب للحماية, من وضع نبتتين على قاعدة النافذة حيث تعتني بهما بشغف. خلف باب جرّار, كانت توجد زاوية للطبخ, و في الناحية المقابلة, الحمام, صغير ولكن لا ينقصه شيء من الضروريات: معدات صحية جديدة, دوش جديد محمي بكابين ذو أبواب جرّارة, برّاقة المرآة التي يلمع فيها ظل الصنابير, النظيفة و اللامعة دائماً. و في النهاية, نافذة تفتح إلى الأعلى حيث كانت تسمح بانتشار الضوء و الهواء النقي. مولكي كانت فخورة جداً بشقتها الصغيرة تلك. كانت قد اشترتها بالنقود التي وفرتها خلال عشرون عاماً من التعب, ولكنها لم تكفها, ولذلك اضطرت لطلب قرض من البنك بكفالة من ربّ عملها الأخير. حتماً السيد أنطونيو و السيدة فرنشيسكا كانا لطيفين, ولكن هي كانت قد استحقت تلك العاطفة و ذلك الاحترام بعد أعوام طويلة من خدمة عائلتهما. و بالفعل, كانت قد أشرفت على تربية أولادهم, إليونورا و أليسّاندرو, و كانت قد رافقت إلى القبر أبويهما, جوفاني و جوليا, أب و أم أنطونيو, كارلو و ماريا, أب و أم فرنشيسكا. عندما دخلت مولكي إلى ذلك البيت, إليونورا و أليسّاندرو كانا يملكان أربع و خمس سنوات من العمر, الآن هما شابان يرتادان الثانوية, ولكن عندما كانا يعودان من المدرسة, (هي الآن تعمل لديهم لمدة ست ساعات في اليوم فقط) يُحيّونها ببهجة, و هم ينادونها كما في صغرهم, "مُوكّي ...", و يطبعان قبلتين على خديها, دون أن يدعوها تتحرك أمام الفرن. قلبها كان مفعماً بالبهجة و هي تفكر بهم: كم من المشاوير كانوا قد قاموا بها سوية على ضفة النهر, كم من الأمسيات أمضوا و هم يحرسون نومهم المؤرق بسبب الحمى, و كم من القصص كانت قد اضطرت لابتداعها لكي تجعلهم يأكلون. و فيما بعد, الجدُّ و الجدّة تعرضا للمرض, في نفس الفترة تقريباً, و العمل تضاعف في البيت الكبير. مولكي لم تشكو, كانت قد قبلت زيادة راتبها, آملة في أن تُسرّع الوقت لشراء الشقة حيث, أخيراً, لكانت جلبت فارتون. ولكن طلبات النقود من قبل أفراد عائلتها, في مقديشو, كانت قد أصبحت أكثر إلحاحاً: كان يوجد دائماً أخ يجب أن يُعالج, ابن عم يجب أن يتزوج, عمة كانت قد بقيت لوحدها و كان يجب عليها إعالتها. الحرب كانت مستمرة, الناس كانوا يموتون, من كان يملك القدرة, كان يغادر البلد, بالنسبة لها كان دائماً أكثر استحالة التملّص من كل طلبات المساعدة التي كانت تأتيها من البيت. ولكن الآن الخطوة الأكثر أهمية كانت قد قامت بها: الشقة كانت مُلكها منذ عام, و كانت قد تمكنت من تأثيثها بطريقة لائقة و فارتون كانت ستصل و أخيراً كانتا ستعيشان معاً. كانت قد أمضت الظهيرة في ترتيب البيت: البلاط كان لامعاً, الزجاج كان يتلألأ خلف ستائر شفافة ذات لون فاتح, بارافان مرسوم عليه تشعبات من الأغصان و الأوراق يفصل السريرين عن باقي الغرفة, الطاولة لامعة تماماً, الكراسي الستة مزينة بوسادات ملونة, و على الجدران المقابلة للمدخل, خزانة كبيرة من نفس لون بقية الأثاث, لكانت ضمّت ثيابهم. مولكي نظرت حولها, مرة أخرى أرادت أن تتخيل كيف ستكون حياتهما في ذلك البيت, و أخيراً مع بعض. لكانت سجلّت فارتون فوراً في مدرسة لتعليم اللغة الإيطالية, ثم لكانت اشترت لها بعض الثياب, و حالما سنحت الفرصة, لكانت جعلتها تحصل على رخصة السياقة: قيادة سيارتها من نوع "باندا" لما كان بالأمر الصعب و حتماً لكان مبعث فخر لفتاة في الرابعة و العشرين من العمر. في إحدى زوايا الغرفة, كانت تتواجد طاولتها: نفضت عنها الغبار للمرة الأخيرة, رتبت كتبها التي على الرف و دققت فيما إذا كان قد بقي قليلاً من المكان لتلك التي سوف تضيفها ابنتها. و أيضاً, كما حدث معها في كل تلك السنين, وجدت نفسها تفكر في الطفلة التي تركتها في الصومال قبل عشرون عاماً تقريباً.مولكي كانت تدرك أنه إذا وقعت في قبضة الذكريات, سوف يستولون على روحها, و أن الزمن سيعيدها إلى الوراء و الساعات ستمر في تتابع حزين لوجوه, أصوات, نكهات و كلمات. كان يوجد على الجدار صورتين لفارتون داخل إطارات بسيطة: في الأولى, طفلة ذات ثلاث سنوات تحي بيد مرفوعة أحد ما في البعيد, في الأخرى, نفس الطفلة, ربما أكبر قليلاً, تجلس ثابتة و مُتزنة على كرسي بجانب نافذة. كان يروقها بشكل خاص تلك التي تُحيّ فيها فارتون أحد ما في البعيد, و كانت دائماً, عندما تنظر إليها, تضيع, تفيض بالحنين و بالأمل. كانت هي التي التقطت تلك الصورة, و حال وصولها إلى إيطاليا, كبّرتها, ولكن الأصلية, بحجم بطاقة بريدية, كانت تحتفظ بها دائماً محميّة داخل غلاف في حقيبتها. كانت تتكلم إلى تلك الطفلة في لحظات وحدتها و في لحظات الأمل, كانت لا تعرف فارتون التي تحولت إلى امرأة: الرسائل كانت مصاغة بكلمات لطيفة, و مجاملات. المكالمات الهاتفية كانت تفيض بالحنان, ولكن تلك الطفلة التي تنظر إلى البعيد بعيونها المندهشة, كانت تعيدها إلى الزمن الغابر, و كانت تلخص في تلك النظرة فقط كل حياتها: الدراسة الثانوية, قصة حبها مع عبد القادر, الجامعة, هو في الهندسة, و هي, مُجبرة, في الكيمياء. في الواقع, مولكي كانت تود لو أنها تدرس اللغات, ولكن أباها ألح كثيراً, بلطف و نعومة, كما تتصف به شخصيته, لكي تلتحق بكلية الكيمياء. "ستملكين عملاً مضموناً, يا مولكي, أعدك بذلك, رئيسنا يعطي أهمية كبيرة للتأهيل و لتعليمكم: أنتم عمادنا!, أنتم شبان و شابات المستقبل!". كانت معدتها تنقبض و هي تفكر بتلك الكلمات: يا أبي المسكين! كم كان ايمانه كبيراً "برئيسه"! كان قد ربّى أبناءه على احترام القانون, التقاليد, حب العائلة و الثقافة, و ثم ... رئيسه جعله ينهي حياته في السجن: قُبض عليه في ليلة ممطرة, و لم يعد أبداً. أمها و إخوتها الإثنين الكبار, محمد و زياد, بحثوا عنه, حتى أنهم طلبوا لقاءاً مع الرئيس, ولكن بلا طائل, لا أحد كان يبوح بشيء. في النهاية, استسلموا, ولكن اعتباراً من تلك اللحظة, كان كل شيء قد تغير بالنسبة لعائلتها: الأوضاع المالية كانت قد ساءت أكثر, حتى أمها الموظفة في إحدى الوزارات فقدت عملها, محمد و زياد كانا قد سافرا فوراً بعد التخرج من الجامعة, واعدين بإرسال المعونة المالية للعائلة حالما يجدان استقراراً جيداً في الولايات المتحدة. فعلا ذلك لبعض الوقت, ولكن فيما بعد تزوجا و المعونة كانت تتقلص باستمرار. مُفكرة بتلك الأيام, شعرت مولكي بغصة تسدّ حلقها: كانت السنون التي وقعت فيها بحب عبد القادر, و سوية معه كانت قد بنت الآمال و الانتظار للمستقبل. عبد القادر كان قد ساعدها كثيراً, عندما حاقت المصائب بالعائلة. كانا قد تزوجا بعد التخرج بقليل. "سنساعد بعضنا البعض – قال لها عبد القادر – سيكون من الأفضل لو أننا نتزوج فوراً يا مولكي, أباك كان موافقاً أيضاً, هل تعرفين". عبد القادر كان قد وجد عملاً جيداً, لذلك, عندما انتبهت هي بأنها حامل, احتفلوا بذلك الحدث رغم أن الأيام كانت قد بدأت لا تعد بأي شيء جيد. و عندما ولدت البنت, سمياها فارتون لكي يشيروا بأنها ستكون سعيدة و محظوظة. في السقوط السريع لعائلتها, كانت مولكي تثق أكثر و تؤول إلى زوجها, لهذا السبب, عندما قال لها أن الوزارة التي يتبع لها تود إرساله لمدة عامين إلى رومانيا للتخصص, هي اعترضت قليلاً. ولكن هو كان يجب أن يسافر, كانت الحكومة هي التي ترسله إلى الخارج, و حتماً, بعد عودته, لكانت أوضاعهم المالية تحسنت كثيراً. لم يسافر أبداً: ألقوا القبض عليه قبل إقلاع الطائرة بساعتين و لم يُعرف عنه شيء بعد ذلك. ولكن الآن يجب أن لا تفكر لا به و لا بالماضي. "الماضي يعيقك عن الحياة, يا مولكي!". كانت تقول لها سيلفيا, سيدة كانت تعمل لديها في الظهر مرة كل أسبوع. سيلفيا كانت مدرسة متقاعدة, كانت تعيرها كتباً كثيرة, و كانت تهديها بعضاً منها, كانت تسألها دوماً عن أخبار الصومال, عن الأحوال الاقتصادية, عن السياسة, كانت تصغي إليها باهتمام, ولكنها كانت تشجعها "للمضي قدماً". "أنت لا زلت شابة يا مولكي, أنت جميلة جداً ... تملكين شهادة جامعية! و إذا حكومتنا حافظت على وعودها, ستنالين قريباً الجنسية الإيطالية, و ربما ستنفتح أمامك إمكانيات أخرى!". ولكن الحكومة كانت قد سقطت, و ذاك الذي حدث فيما بعد, كان لا ينبئ عن آمال طيبة. مولكي لم تكن غير راضية عن حياتها: لقد كان الأمر صعباً في السنوات العشر الأولى, هذا كان صحيحاً, ولكن حتى في تلك اللحظات, لم ينقص الأشخاص الذين ساعدوها, الذين أعجبوا بها, كانت تملك أصدقاء إيطاليين و من جنسيات أخرى أيضاً, كانت تملك بعض الصديقات الصوماليات حيث كانت تعول عليهن كثيراً, ولكنها لم تكن محبوبة من قبل الجالية. "إنها متعلقة بالثقافة و بالدراسة", كان يقول البعض, " ... إنها تذهب إلى السينما, تحب الموسيقى, إنها مختلفة". هي كانت لا تأخذ بعين الاعتبار أحكام كهذه, , ولكنها اضطرت لكي تضغط على أسنانها, في مناسبات كثيرة, لكي لا ترد على الاستفزازات, و أن تجمع قواها لكي تمضي إلى الأمام. و الآن كانت قد وصلت إلى مبتغاها, ستأتي ابنتها و ستبدآن الحياة من جديد, لكانت أخيراً كرست كل وقتها لها, مُسبغة عليها العاطفة و الحنان التي كانت تعرف بأنها لم تمنحها إياها, تاركة إياها في الصومال. "سأستقبلك مثل ملكة, - كان تفكيرها الأخير قبل أن تخلد إلى النوم – سأشتري وروداً, حلوى, سأعتني بك, إذا كنت ضعيفة و متعبة, سأعرفك على كل صديقاتي, سأساعدك في الدراسة, سأعرفك على هذه المدينة ... سأحبك كثيراً!".
الفتاة الشابة التي اتجهت نحوها في المطار, خلقت في نفسها, خلال لحظة واحدة, ألف إحساس متناقض: كانت طويلة و نحيفة, ملفوفة بجلباب أسود حيث يغطي كل جسمها تقريباً. ليس الجسم وحده كان مغطى بصرامة, بل جزء من الوجه أيضاً, كان يمكن رؤية العيون فقط و لا شيء آخر. مولكي جاهدت لكي تتعرف عليها: في الصور التي كانت فارتون قد بعثتها لها مؤخراً, على الأقل الوجه كان سافراً, ولكن الآن ... بدا لها مستحيلاً أن الفتاة, بذلك اللباس, استطاعت أن تعبر بسهولة نقاط التفتيش الحدودية. ثم لماذا تلك الألبسة التي تجعل منها كتلة غير متجانسة ... لماذا التحجب بهذا الشكل؟ أوقفت زحف تلك الأفكار الطاغية التي, رغماً عنها, لم تترك مكاناً للدفق الأول لأن تركض نحوها و تعانقها, لم تشأ أن تعتني لا بذلك الزي و لا بتلك العيون التي, انتبهت فوراً, أنها تحدق بها بصرامة, قامت ببعض الخطوات نحوها و مدت لها ذراعيها:" أنا هنا, يا فارتون! أنا هنا يا طفلتي! أخيراً! أخيراً!". و الدموع انصهرت مع كلماتها. فارتون بادلتها العناق, شكرتها, قالت لها بأنها كانت سعيدة جداً لأنها وصلت و أنها, طبعاً, ستبقى دائماً معها. مولكي قدمت لها فوراً سترة ثقيلة و زوجاً من القفازات الصوفية. "هنا الطقس بارد – قالت لها – ارتدي هذه و البسي القفزات!". فارتون نظرت إليها باعتراض, "أنا أشعر بالراحة هكذا, شكراً, لا أشعر بالبرد". مولكي أرادت أن تلح, ولكنها استسلمت أمام ذلك الحزم الذي لم تتعود عليه. فارتون تبعتها نحو السيارة و هي تمشي بشيء من الارتباك و غير واثقة في زحام المطار." أعطني , أعطني حقيبتك – قالت لها مولكي – أنت اجلبي الحقيبة الصغيرة فقط و اتبعيني, يجب أن نصل إلى موقف السيارات". فارتون أعطتها الحقيبة و تابعت المشي وراءها دون أن تنبس بكلمة. جالسة في السيارة بالقرب منها, مولكي سألتها:"هل كل شيء كان على ما يرام؟ هل سافرت بارتياح بما فيه الكفاية؟". "نعم – أجابت فارتون – تعرضت لتفتيش كثير ... أخذوني إلى غرفة, حيث إمرأة كان عليها أن تفتشني و تتحقق من هويتي! إنه أمر لا يصدق!". "إنه القانون, يا عزيزتي", قالت مولكي فقط و أدارت المحرك. لاحظت أن فارتون تنظر إليها بعيون فضولية و معترضة, كانت تنظر إلى يديها على المقود, شعرها المغطى بمنديل أزرق يتناسب مع لون السترة, كانت تنظر إلى زحام السير الصباحي في روما, هلعة قليلاً و ربما مشتتة كثيراً. مولكي كانت تقول لها أسماء الشوارع المهمة و تشير إلى القصور و الكنائس القديمة. "الآن أنت متعبة – قالت – ستملكين الوقت لكي تستريحي. عندما سترتاحين, سأجعلك تشاهدين هذه المدينة, سنقوم بمشاوير جميلة جداً على التلال, سأريك قطار الأنفاق و سأعلمك كيف تستخدمينه.". كانت فارتون تصغي بصمت. في البيت, مولكي أرتها سريرها, قسم من الخزانة حيث يمكنها وضع ألبستها, أشارت لها إلى مكان الحمام, ركن المطبخ و طاولة الكتابة الملحقة بالمكتبة. أرتها أيضاً الزاوية المخصصة للصلاة: "هنا, في هذا الوضع, وجهتنا تكون نحو الجنوب – الشرقي, هنا توجد سجادتينا, يمكننا أن نصلي معاً أيضاً, خاصة في الصباح و في المساء, أنا لا أكون متواجدة في البيت خلال النهار أبداً. سأكون في العمل". "إذن, أنت لا تصلين". كلمات فارتون لم يكن سؤالاً, كان تأكيداً بدا لأمها و كأنه توبيخاً. "لا استطيع تقريباً أبداً خلال النهار – قالت مبررة تقريباً – أعمل لغاية الساعة الثانية لدى عائلة فازولي, في الثالثة يجب أن أتواجد عند عائلة أخرى لثلاث ظهيرات في الأسبوع, و الظهيرتين الباقيتين يجب أن أذهب لدى معلمتين متقاعدتين, السيدة جارديني و سيلفيا رينالدي. لقد أصبحت سيلفيا صديقة, عندها أستطيع أن أصلي في الظهيرة, ولكن الآخرين ... ", "إذن كيف تتدبرين أمرك؟, سألت فارتون و هي تنزع ملابسها, قبل أن تدخل إلى الحمام, "استعيد ما تجاوزته في المساء", أجابت مولكي, ثم أخفضت نظرها و اتجهت بصمت نحو ركن المطبخ. فكرت و هي تحضر الشاي, بأسف, أنه في بعض المرات عند المساء, كانت متعبة لدرجة تنهار فيها على السرير دون أن تنزع ملابسها و حتماً كانت لا تستطيع تأدية الصلاة. ابنتها كانت محقة, كانت يجب عليها أن تنتبه أكثر, ولكن حياتهما الآن ستكون مختلفة, أكثر انتظاماً, و سوف يكون وقت لكل شيء. "يجب عليّ أن أعمل كثيراً, لا شيء سيتغير", فكرت و هي تسكب الشاي في الفناجين" ... القرض الذي يجب دفعه ...الفواتير ... و النقود التي يجب إرسالها إلى البيت ..." رائحة التوابل ملأت الغرفة, مولكي أخرجت من البراد الحلوى التي كانت قد حضّرتها. "عندما تكونين جاهزة, تعالي و تناولي الشاي يا فارتون! لقد حضّرت الحلوى أيضاً ...!". لم تجبها ابنتها من الحمام, مولكي فكرت أنه بسبب ضجيج الماء, لم تسمعها, اقتربت من الباب. "هل كل شيء على ما يرام؟", سألت, الفتاة أجابت فقط "نعم". عندما خرجت, أفصحت بحركة قاسية: "ماما – قالت لها – لا يمكن الكلام عندما يتواجد المرء في الحمام! إنها عادة سيئة. "مولكي أخفضت بصرها و قالت فقط:" أنت محقة يا فارتون ... أنت محقة", و جلست بالقرب منها داعية إياها لشرب الشاي. في الأيام التالية, مولكي التي كانت قد حصلت على أسبوع من الإجازة, كرست نفسها تماماً لابنتها: اصطحبتها لدى الدكتورة ماريني, طبيبتها, و عملت بطريقة أن تًفحص الفتاة لكي ترى فيما إذا كانت تملك بعض المشاكل الصحية التي يجب مواجهتها فوراً. كانت فارتون تتمتع بصحة جيدة, ولكن مولكي أصرّت بأن تأخذ بعض الأدوية الخاصة لكي تقوًي مناعتها. اصطحبتها لدى طبيب الأسنان, الدكتور كارلو كارديللي, حيث عملت لدى عائلته لبضع سنوات, لكي يفحص وضع أسنانها و أن يتدخل فيما إذا كانت هنالك ضرورة. "الدكتور كارلو لا يجعلني أدفع كثيراً – قالت لابنتها و هي تقود في زحام سير الساعة السادسة – إنه لطيف جداً و يمكنني أن أدفع أيضاً أقساطاً مريحة. أنا وجدت نفسي دائماً مرتاحة معه". فارتون تنهدت و هي تنكمش داخل جلبابها. "ماما, أراك مهووسة بهذه الأشياء! ثم لماذا طبيب أسنان؟ أنا أفضل امرأة!". "أنا آسفة جداً", أجابت مولكي, "لا أعرف طبيباً آخراً. أنا أيضاً كنت حذرة, طبيبي المعتاد هي سيدة, لقد رأيتيها, اخترت طبيبة نسائية حيث, إذا كنت ترغبين, سأدعك تقومين بزيارة لها, ليتيتسيا طبيبة جيدة و صديقة غالية. ولكن لا أعرف طبيبة أسنان!". فارتون لم تجب, ولكن خلال كل الفترة التي استغرقت فيها زيارتها للدكتور كارديللي, كانت مشدودة الأعصاب, متوترة و لا تتمكن من الارتياح. "هل أسبب لك ألماً كثيراً؟", سأل الطبيب, مولكي ترجمت و فارتون أجابت بالنفي. اتفقوا عما يجب أن يفعلوه. "ليس كثيراً", قال طبيب الأسنان, "سننهي الموضوع خلال شهرين و الآنسة ستمتلك فماً جديدا!". مدّ لها يده التي لم تصافحها فارتون. مولكي تظاهرت بعدم رؤية المنظر و قالت:"كيف سنتفق على الدفع, دكتور كارلو؟". "كلا, كلا", قال هو مخفضاً نظره و مرتبكاً قليلاً, "إنها ابنتك يا مولكي, لقد انتظرناها جميعاً لوقت طويل ... اسمحي لي على الأقل أن أقدم لها عملي هذا ... فلنترك النقود جانباً". مولكي شكرته و قالت لفارتون أن الطبيب سيقدم لها هذه الفرصة, الفتاة ابتسمت. في السماء, أثناء تناول طعام العشاء, مولكي اقترحت على ابنتها أن تذهب, في اليوم التالي, لشراء معطف. "السترة المبطنة بالإسفنج التي اشتريتها لك قبل أن تأتي, مناسبة لأيام المطر, أريد أن أشتري لك أيضاً معطفاً طويلاً, حيث يغطي جسمك جيداً في الأيام الباردة. أريد أن أشتري لك زوجاً من الأحذية لحماية قدميك من البرد و من المطر". "ولكن إلى أين ذاهبة أنا يا أمي؟ أنا لست معتادة أن أتجول خارجاً طيلة النهار. أنت تعرفين بأن الفتاة لا يمكن أن تقوم بهذا!". مولكي حاولت أن تسيطر على تشتت الفكر الذي كان يطغي عليها في كل مرة تتكلم ابنتها بتلك الطريقة و قالت لها بأنها ستذهب لدى البروفيسورة سيلفيا لكي تتعلم اللغة الإيطالية, و أنها ستذهب لدى طبيب الأسنان, لأنه سوف لن يكون بوسعها اصطحابها كل مرة. "سيلفيا تطوعت لكي تساعدك في اللغة – قالت – و بهذه الطريقة سنوفر المبلغ المطلوب للتسجيل في دورة لغة. لقد ساعدت طلاباً أجانب كثيرين, أتعرفين, إنها متمرسة جداً, يمكنك أن تثقي بها". "ألا استطيع الذهاب لعندها عندما تذهبين أنت؟ هكذا سنذهب سوية بالسيارة!". مولكي لم تشأ أن تغضب تجاه تلك الاعتراضات الغريبة, فارتون كانت لا تزال مشتتة الأفكار, يجب أن تستوعب تدريجياً كيف يجب عليها أن تتصرف في تلك المدينة, في ذلك العالم المختلف كثيراً عن عالمها. "سيلفيا تريد منك أن تذهبي لعندها ثلاث مرات في الأسبوع – قالت – أنا أستطيع أن أرافقك في الظهيرة التي أذهب فيها للعمل لديها, المرات التالية ستذهبين بمفردك. سأعلمك الطريق: سنذهب مرتين أو ثلاث مرات بقطار الأنفاق, و ليس بالسيارة, و بهذه الطريقة ستتعلمين". الأيام التي تلت وصول فارتون مضت بسرعة, بعد ذلك, حياة مولكي عادت تدريجياً إلى نسقها السابق: العمل في منزل عائلة فازولي حتى الساعة الرابعة عشر و من ثم الظهيرة لدى منازل العائلات الأخرى. كانت ترجع كل مساء في الساعة الثامنة و كانت تجد البيت دافئاً و مُرتبّاً, العشاء جاهز, و فارتون تنتظرها. الفتاة, بقدر ما كان ممكناً لها, كانت تبذل كل ما بوسعها من أجل البيت: لم تكن خبيرة في استعمال المنظفات المتعددة و بعض الأجهزة الكهربائية التي كانت قد اشترتها مولكي, ولكنها تعلمت بما فيه الكفاية من السرعة استعمال هذه الأدوات و جاهدت لكي تفعل كل الأشياء التي كانت أمها تعلمها. و في اللغة الإيطالية أيضاً, كانت تقوم بخطوات كبيرة. سيلفيا قالت لمولكي أن الفتاة كانت تستوعب بسهولة و أنها, في العام القادم, يمكنها أن تسجل نفسها في مدرسة مسائية لكي تدرس في فترة قصيرة بما فيه الكفاية المرحلة الثانوية. مولكي كانت مسرورة: كانت تعود في المساء و تجد من ينتظرها, شخص تتكلم معه. كانت تسأل كثيراً عن الحياة في مقديشو في السنوات الأخيرة, كانت تسأل عن أخبار الأقرباء و الأصدقاء. كثيرون منهم كانوا قد قضوا نحبهم, آخرون كانوا قد غادروا البلد, فارتون كانت تجيبها راوية كل ما كانت تعرفه, ولكن أمها كانت تدرك من كلماتها, من حركاتها, من تحفظاتها, شيئاً كان يهزها, يبعث القلق في نفسها. كيف كانت قاسية مع الجميع ابنتها هذه! كانت تطلق أحكاماً سلبية على أصدقاء أمها من الإيطاليين, كانت تقول أنه حتى صديقاتها الصوماليات لم يكنّ أشخاصاً يمكن الاعتزاز بهم. " صديقتك رقية – قالت في ظهيرة يوم سبت, بينما كانتا توضبان البيت سوية –حتما ليست مسلمة جيدة". "لماذا تقولين هذا يا فورتون؟", سألتها مولكي بألم شديد, "لماذا تحكمين عليها؟". "إنها متزوجة من إيطالي, و أطلقت اسم إيطالي على أحد أبنائها". "إبنها اسمه فرنشيسكو كاسم جده, و ابنتها اسمها عائشة كاسم جدتها من أمها: إنهما قاما بهذا الاختيار, ماذا يعنينا نحن؟". فارتون وضعت المكنسة في إحدى الزوايا و خطت بعض الخطوات باتجاه أمها. "إنه يعنينا يا أمي, كان على رقية أن لا تتزوج ذلك الرجل ... امرأة مسلمة لا يمكنها أن تفعل ذلك, أنت تعرفين ذلك تماماً". مولكي تنهدت. كانت تشعر بالضيق أن تسمع من يتكلم عن صديقتها بتلك الطريقة, كانت تتضايق فوق كل شيء تمادي ابنتها. "أفهم ما تقولينه يا فارتون", حاولت أن تقول, "ولكن يجب علينا الابتعاد عن الأحكام المسبقة. نحن لا نملك القدرة على الحكم, فلنحاول أن نعيش بشكل جيد حياتنا, محترمين قانون الرب و قانون البلد الذي نتواجد فيه ... و هذا ليس بالقليل, صدقيني". إجابة فارتون جعلتها تتردد في المتابعة:" و أنت أيضاً لست مسلمة جيدة يا أمي! أنا آسفة, ولكن إيطاليا حرّفتك أنت أيضاً. لا يمكن للمرء أن يكون مسلماً في هذا البلد! كلا, لا يمكن". مولكي عادت لتلمّع مقابض الخزانة و بحثت في دماغها عن الكلمات للرد عليها, جاهدت لكي لا تغضب, ولكن عندما تكلمت, كان صوتها مشحون بالغضب:" يمكن للمرء أن يكون مسلماً جيداً في أية بقعة من العالم", قالت, واجدة نفسها, رغماً عنها, و هي تنظر بقسوة إلى ابنتها, و جواب الفتاة تركتها مذهولة. "كلا, الأمر ليس كذلك يا أمي. هذا يمكن في إنكلترا ... ولكن ليس في إيطاليا". مولكي اعتقدت بأنها لم تفهم جيداً و سألت:" "أين؟". "في إنكلترا, حيث عدد الجالية الصومالية كبير: هنالك إمكانية أكبر للإصغاء إلى تلاوة القرآن, يمكن مشاهدة برامج دينية من قنوات تبثها محطات دينية. يمكن البقاء في البيت, لأن الحكومة تمنح مساعدات مادية و ليس مثل هنا في هذه المدينة التي تقطعينها طولاً و عرضاً أكثر من مرة في اليوم لكي تكسبي قليلاً من النقود و لا تملكين حتى الوقت لكي تصلي! هنالك الحياة مختلفة يا أمي". صدى هذه الكلمات و أخرى مشابهة لها, كانت تصاحب مولكي أثناء يومها في العمل. كانت تدوّي في رأسها بينما تقود السيارة, بينما تنظف أرضية البيوت المختلفة, و بينما تقطع ممرات المخازن الكبرى. كانت تمتزج بصخب جهاز مُلمّع البلاط, مع تدفق الماء, مع الرسائل الإعلانية التي كانت لا تصغي إليها. كانت تعي جيداً ذاك الذي حدث في بلدها, كانت تفكر بذلك دائماً بمرارة و حنق, ولكن ملاحظة كل يوم التأثير السلبي و المهووس لبعض التيارات الدينية على الأشخاص, بالأخص على الشباب, هذا الأمر كان بحق يجعلها ترتجف من الحنق و يؤلمها في عمق نفسها. كانت لا تريد أن تستسلم أن ابنتها بالأخص, المرأة الشابة التي فكرت لها بمستقبل مريح, ربما سقطت في هذا الإعصار المتطرف الذي كان لا يسمح لها أن تحلل بعقل مفتوح شؤون الحياة و التي كانت تمنعها من إنشاء علاقات طبيعية مع الأشخاص. "إنه ذنبي, ربما", كانت تفكر أحياناً, أثناء عودتها إلى البيت مساء, "كان عليّ ألاّ أتركها في الصومال لفترة طويلة كهذه, كان يجدر أن أكون حازمة أكثر, و غير مترددة, كان عليّ أن أجلبها إلى هنا منذ أمد طويل ... منذ أمد طويل!"., كانت تؤنب عدم مقدرتها في تقييم الوضع. كانت تكرر أنه كان عليها ألاّ تثق بالأقرباء الذين, إثر اندلاع الحرب, حتى عندما كانت أمها ميتة, كانوا قد أخذوها من مقديشو مدعين بأن البقاء في المدينة كان خطراً جداً, كانوا قد أخذوها إلى الريف, و منذ تلك اللحظة, هي, لوقت طويل, لم تتلق أخباراً عن الطفلة. "كان يجب علي أن أذهب و أجلبها أنا ... كان علي أن لا أثق بأحد". عندما تركت مقديشو في عام 1986, كانت فارتون تملك أربعة أعوام من العمر, و هي ثمان و عشرون عاماً, كانت تشعر بأنها قوية, مليئة بالحيوية. "أنت اعتني بالطفلة", كانت قد قالت لأمها, "أنا سأعمل و سأرسل النقود, ثم, حالما أستطيع, سأحضركم معي إلى إيطاليا". ولكن السنوات الأولى كانت صعبة: كانت تفقد العمل باستمرار, لم تكن توجد قوانين تحميها, ثم كانت الحرب قد اندلعت في الصومال. بعد عشر سنوات تقريباً, عندما بدأت العمل لدى عائلة فازولي و دخلها بدأ يمنحها ضماناً أكثر, كان هاجسها الوحيد و المستمر هو: امتلاك بيت, بيت تعيش فيه مع فارتون. السرور الذي تشعر به الآن, في كل مساء, بدخولها إلى شقتها, هو رؤية ابنتها و هي تنتظرها, كانت دائماً متجهمة من سلوك الفتاة, دائماً أقل استجابة لذاك الذي تنتظره مولكي منها. كانت فارتون تشتكي من أن الفتيات الصوماليات اللواتي يعشن في إيطاليا, نادراً ما كن يدعونها لحفلات زفافهن , و أنه, عندما كن يفعلن ذلك, كانت أمها في أغلب الأحيان تعتذر عن الذهاب. "في الشهر الماضي, ذهبنا إلى نابولي لحضور حفل زفاف شكري", قالت مولكي في ظهيرة أحد الأيام, "في الأسبوع الماضي تزوجت منى و كنا قد ذهبنا إلى فيتربو. لقد رغبت أن تشتري القماش من مخزن إيفا لكي تخيطي لنفسك ثوباً, و أنت تعرفين جيداً كم جعلنا ندفع. الآن, ستتزوج عَيْنْ و يجب علينا الذهاب إلى ميلانو من أجلها؟ كلا يا فارتون, لا يمكننا أن نفعل ذلك!". فارتون لم تتمرد, ولكنها قالت فقط:" إذا كنا لا نستطيع تحمل النفقات, حتماً سوف لن أذهب, ولكن أريد أن أقول لك يا أمي, أنا لا يروقني العيش هنا". "أنتِ هنا منذ شهور قليلة", حاولت أن تقول مولكي, ولكن ابنتها لم تدعها تتابع, "أنا مسرورة لأنني معك يا أمي, أعرف بأنك قدمت الكثير من التضحيات, عملت كثيراً, ولكن إلى أية نتيجة أوصلك كل هذا العمل؟". "إلى أية نتيجة أوصلني؟", مولكي حاولت أن تسأل, ولكن الفتاة كانت تقريباً لا تصغي إليها, "نعم, إلى أية نتيجة أوصلتك؟ أنت هنا منذ أكثر من عشرون عاماً و لم تحصلي حتى على الجنسية الإيطالية, عملت خادمة طوال كل هذا الوقت, و لم تتحركي قيد أنملة من هذه المدينة, كان بإمكانك أن تقومي ببعض الأعمال التجارية, افتتاح محل مثلاً ... ولكن لا شيء من هذا . الحاصل, لم تتقدمي إلى الأمام.". مولكي بحثت عن الكلمات لكي تجيب, تعاركت مع الدموع التي كانت تملأ عينيها, تعاركت مع صراخ اليأس الذي ينفجر في حلقها و في النهاية قالت فقط:"اعتقدت بأن ما أفعله كان مفيداً يا فارتون, أنا آسفة, هذا ما استطعت أن أفعله فقط, الجنسية الإيطالية سأحصل عليها قريباً, لقد أجريت المقابلة ... يجب أن نكون صبورين!". فارتون كانت تستعد للخروج. كانت ترتدي ثوباً من الحرير الأزرق, جميل جداً, الذي كان يترك عارياً ذراعيها و ظهرها, كانت قد جدلت شعرها, و كان يعبق من حولها عطر كثيف. "لا تقلقي يا أمي – قالت لها – ولكن صدقيني هذا أفضل بالنسبة لي فيما لو ذهبت إلى إنكلترا". خارت قوى مولكي للحظة, ولكن يبدو أن فارتون لم تنتبه لذلك, و تابعت:"هنالك صديقاتي, و عائشة أيضاً بصدد أن تسافر, و في الحقيقة نحن ذاهبون اليوم لنحتفي بها. أمينة و فطومة سافرتا في شهر يناير\كانون الثاني ... هما تساعدانني و أنا أيضاً سأسافر عن قريب". مولكي امتلكت الوقت فقط لتسمع صوتها و هي تقول:"ماذا تريدين أن تفعلي يا فارتون؟". ولكن الفتاة ارتدت الجلباب بحركة سريعة, غطت بالخمار شعرها و جزءاً من وجهها و اقتربت منها:"أنا آسفة يا أمي, - قالت – كنت أريد أن أقوله لك منذ بضعة أيام, ولكن كل شيء قد أصبح جاهزاً. صديقاتي ساعدنني و أحمد أيضاً عمل كثيراً من أجلي, إن ممثل الجالية بحق كفء جداً, لقد ساعدني كثيراً". مولكي جلست بالقرب من الطاولة, وضعت يديها على الكتاب الذي تقرأه منذ عدة أسابيع, و انتبهت إلى أنها تنحني دائماً أكثر تحت وطأة كلمات فارتون التي تتساقط عليها. كانت تبحر في عطرها, تضيع في رنين صوتها, كانت تنتظر لكي تُبتلع من الفراغ الذي كان سيحدث, لو أنها خرجت من الباب. "لا تكوني حزينة يا أمي! – كانت تقول الفتاة – قريباً ستأتين أنت أيضاً إلى إنكلترا ... سأطلبك أنا و أخيراً ستتوقفين عن عمل الخادمة لكل هؤلاء "الغالوو"! سنكون مرتاحين مع بعض. سنعتني بأنفسنا و أخيراً يمكننا أن نعيش كمسلمين حقيقيين". فارتون ودعتها, قالت بأن زوج عائشة سيحضر ليرافقها, و أنهما سيذهبان لأخذ رَحْمة و سعيدة. "سنعمل حفلة كبيرة – أضافت – يمكنك أن تأتي أنت أيضاً. إذا كنت غير جاهزة, سنمر لأخذك في وقت لاحق". مولكي لم تقل شيئاً. رأتها تختفي خلف الباب الذي أغلق خلفها. سمعت ضجيج المصعد و من ثم, في البعيد, إغلاق باب سيارة. نظرت حولها مشوشة: في الهواء, كانت لا يزال يتراقص عطر و صوت فارتون, غير أنها كانت متأكدة, خلال بضع ساعات, أن الفتاة التي دخلت من باب البيت, سوف تكون بالنسبة لها فقط امرأة شابة حيث اختارت طريقها. كانت قد اختارته دونها. نظرت إلى الأثاث, إلى ستائر النوافذ, إلى صور أفراد العائلة على الجدران و صور مدينتها التي تعود لسنوات بعيدة, حيث لا تزال جميلة و هي ممددة ما بين البحر و الكثبان الرملية. "ماذا فعلوا بك يا فارتون؟". ماذا فعلوا بأرضي الحبيبة؟!". و لم تسمع لا بلاغة و لا نمطية في كلماتها التي انتبهت بأنها تلفظها بصوت خافت, بل الألم فحسب. نظرت إلى الصورة التي تُشاهد فيها فارتون تحيّ أحد ما في البعيد و صَلّتْ, و هي جالسة في مكانها, دون أن تتحرك, دون أن تستعد: سألت الله العفو لأنها كانت متغطرسة, سألت فارتون الصُفحَ لأنها لم تتمكن من فهمها و انخرطت في البكاء.