El Ghibli - rivista online di letteratura della migrazione

عربية / english / español / franais



الطقس حارٌّ في ليما

بقلم: ستيفانيا غوليش

كنت لا أعلم كم هو شاقٌ السفر!
لم أسافر مطلقاً. في البداية, كان الأمر لا يروقني. كان لا يهمني البتة, و فيما بعد, عندما تولتني الرغبة, لم أعد أملك القوة. كان الوقت قد أصبح متأخراً كثيراً.
خطيئة, خطيئة لا تغتفر.
ترّهات.
في الحقيقة لست نادماً لأنني لم أسافر مطلقاً. لقد كانت حياتي دائماً مُمتعة في ليما. مُمتعة أو سيئة, أنا عشت في ليما. هذا كافٍ. حتماً لما كنت أفضل حالاً في مكان آخر, و لما كنت في حالة أسوأ أيضاً. أو ربما كان ذلك صحيحاً؟ أنا لا أعرف ذلك, لست متيقناً منه, لست متيقناً أبداً من أي شيء, غير أنني لا أخجل من ذلك. أنا عجوز. لماذا عليّ أن أخجل بعد؟ أي مغزى سيكون له؟ آه, السفر شاقٌ! إنه شاقٌ حقاً. لما كنت قلت هذا من قبل أبداً. الآن فقط أعرف ذلك. عمري خمسة و وسبعون عاماً. بلغتهم في شهر نيسان. في منتصف شهر نيسان بالضبط. عيد ميلادي يشطر الشهر إلى قسمين, السنين, الساعات, ساعاتي, الوقت المتبقي. عندما أغمض عينيّ أشعر, في أي مكان كان, بدقات, إنها الدقات الثقيلة لساعتي الجدارية التي جلبوها لي من ألمانيا منذ زمن بعيد, بعيد جداً – إنها موسيقى, بالنسبة لي, موسيقى تلك الدقات, تيك تاك.
آه, يا للتعب, اللعنة على هذه الرحلة! المقاعد ضيقة و هنالك دائماً أحد ما يريد أن يثرثر أو من يتصفح الجريدة أو يُحدِث ضجيجاً مقزّزاً أثناء تناوله الطعام. الأمر هكذا دائماً. أعرف ذلك. أنا عجوز, أعرف كل شيء عن الحياة و يمكنني قول ما أرغب به. إنه لمن الحظ أن تكون عجوزاً, بالألمانية يدعون ذلك حرية المهرّج, نارّنفراي هارت – يقولون: دعوه يتكلم, إنه عجوز, لم يعد يفهم أي شيء, إنه إنسان لا زال يعيش في القرن الماضي, فكروا, حتى أنه يرفض الشرب من كأس بلاستيكي و يعتمر دائماً قبعة غريبة, خضراء مع ريشة كبيرة, أين يعتمرون قبعات مثل هذه بحق الجحيم؟ ليس في ليما.
حتماً ليس في ليما. أنا الوحيد, ربما, بالعكس حتماً. أنا يروقني أن أكون هكذا و ذاك الذي يروقني أكثر أيضاً أنه لا يروق لأحد. إنهم يسخرون مني. كما لو أنني لا اعرف ذلك! و أنا اسخر منهم! هاكم! و كلنا سعداء و قانعين, هكذا يقال, دون تفكير, وأنا أيضاً لا أفكر عندما تخرج من فمي كلمات و جمل بلا مغزى, لا مغزى من الكلام, أنا توقفت عن الكلام منذ زمن, ُأفضّل الإصغاء للموسيقى – الجو حار هنا في الداخل, أليس كذلك؟ فقط في ليما الحرّ اشدّ وطأة, و هو أكثر حرارة أيضاً في مكتبي الكائن في شارع كوردوبا 17.
فلاديمير خوان دي لا فيغا, هذا هو اسمي. المهنة كاتب بالعدل. هذا ما قرّره والدي منذ زمن بعيد, كل شيء حدث منذ زمن بعيد. عندما كانت النقود توشك على النفاذ, قال لي في أحد الأيام: لقد حان دورك الآن يا بني, لم تعد توجد نقود لك و لشقيقتك. لقد بذّرتها كلها أنا و أعترف لك بأنني استمتعت كثيراً!
فيما بعد, قهقهة عظيمة, كما كان يتمكن من فعل ذلك هو فقط.
لا يهمني أي شيء من هذا الرجل و اذكره بشكل سيء جداً, غير أنه مات فوراً أو تقريباً. كان يُدعى مثلي, مثلي تماماً: فلاديمير خوان.
فلاديمير, لأنه في ذلك الوقت, كان أبي شيوعياً. فيما بعد, فلاديمير الأول هذا مات و أنا وُلدتُ و عشتُ الحياة التي لم يعشها أخي و تلك التي لم تكتمل لفلاديمير إليتش لينين. فقط بعد خمسة أعوام ولدت آدا. شقيقتي آدا. كم كانت جميلة, طيبة و – بلا شعور – حزينة, شقيقتي, التي كنت أُحبها و التي لا زلت أُحبها و التي سوف لن أتوقف أبداً عن حُبّها. إنه الشيء الأكثر إعتيادياً في العالم حُب شقيقتك, الأنثى الوحيدة من نفسِ دمِكَ, الوحيدة التي يمكن أن تفهمها لغاية مجاهل نفسها.
لا افهم لماذا كل الأشقاء لا يحبون شقيقتهم كما يجب, كما هو مُدوّنٌ في القانون السري للسعادة الأكثر حزناً.
لا أفهم حياة الآخرين و هم لا يفهمون حياتي. هذا كل شيء.
نحن نعيش على نفس الكوكب, ولكن هنالك أناس يرون لوناً معيناً, بينما أنا أرى لوناً آخراً. كنت أُصوّبُ خطاي نحو السعادة, نحو سعادتي و تلك التي تخصّ شقيقتي, و لا شيء آخر. أعرف بأن الربّ يوافقني, أعرف بأنه يصادق على اختياري. كل يوم أحد أشعل شموعاً لتبجيل السيدة العذراء التي تحوّل ما هو مستحيل بالنسبة لها إلى ممكن. و أقول: شكراً. و مرة أخرى: شكراً.
شكراً, لأنه حتى و لو لوقت قليل مضى, أنا و شقيقتي لكنا عرفنا السعادة. أنا كنت أحب آدا و هي كانت تبادلني الحبّ. و معاً كنا نغني في البيت القديم المظلم و الذي يغصّ بالفوضى, المليء بأغراض غريبة جلبها أبي من رحلاته: مكان مثالي للاختباء! من جهة أخرى, أبي لم يكن موجوداً دائماً تقريباً. كان يولي أمرنا قبل السفر بقلة انتباه لعناية مُرضعة عجوز عمياء و بكماء, بالتالي كنا أحراراً! كنا لا نشعر بفقدان أحد, حتى فقدان أمنا التي تركتنا هكذا منذ وقت طويل و حيث لا أحد يتذكرها. ذاك الذي كان موضع اهتمامي في ذلك الحين و لا زال حتى هذه اللحظة, هو, آدا, معبودتي, موسيقاي.
آه, كم من الوقت مضى منذ أن ماتت شقيقتي, تاركة إياي كقطعة لحم مرتجفة, وحيداً في ذلك البيت حيث كنا سعداء. كيف تجرأت على ذلك, لا زلت أتساءل حتى اليوم, أن تذهب دون أية كلمة؟ لقد أخذتِ معكِ روحي, يا شقيقتي, حتى و لو أن بعض الفلاسفة المعاصرون يعتقدون بأننا مخطئين و أن الروح غير موجودة البتة. بينما أنا اعرف بأنها موجودة, بالعكس, كانت موجودة. فيما بعد, التهمتها شقيقتي و هي في جوفها الآن, أنا موجود في جوفها منذ أكثر من خمسون عاماً, داخل شقيقتي التي تلقفت ببهجة مستديمة روح و جسد شقيقها. كان الأمر يجب أن يكون هكذا و هكذا كان, و تحت منظور آخر, لا زال كما هو حتى الآن. لا شيء تغير و لا شيء سيتغير أبداً.
فقط بعد موت آدا, بدأت أصغي إلى الموسيقى. لأنها كانت تمتلك صوتاً جميلاً و كانت تحب أن تغني. لأنه عندما كنت أصغي إليها, كنت اشعر بوحشة أقل, و في بعض الأحيان أتمكن حتى من سماع صوتها أيضاً. كنت لا أريد أن أترك البيت, أن اذهب إلى المدرسة و فيما بعد إلى الجامعة. كنت لا أريد مهنةً, حياةً, زوجةً. كنت لا أريد أن أخونها, بل أن أبقى مخلصاً للأبد إلى دمنا الرائع.
ولكن أبي كان يلحّ. كان يريد أن يراني كاتباً بالعدل مثله. قضيت جزءاً كبيراً من عمري في المكتب, خلف طاولة, مرتدياً قميصاً ابيضاً مكوياً بعناية لكي أقوم بأعمال لا يهمني منها أي شيء.
لا مبالاة مقدسة! تحت منظور معين, كان أمراً جيداً أن لا أفكر خلال النهار بشقيقتي آدا. ربما لكنت متّ لو لم أكن مُجبراً على الذهاب إلى المكتب في الصباح حيث كانوا يعاملونني باحترام, و هم يدعونني دكتور أو كاتب بالعدل, و حيث كل أمور الحياة كانت بسيطة و يمكن حلّها. كانت الأمور تسير بشكل جيد هكذا, حتى الساعة الخامسة من بعد الظهر كانت تسير هكذا. فيما بعد, كانت تبدأ حياتي الحقيقية. لم أخن أبداً شقيقتي. بقيت دائماً مخلصاً لها.
الطقس حارّ في ليما, حارّ دائماً, كما هو حار في هذه الطائرة! اشعر بضيق في النفس, أريد أن اشرب و بالتالي أنادي المضيفة. كلا, ليس الماء, الأمر يتطلب شيئاً أقوى, أن تثمل هو واحد من أكثر الأمور سُموّاً في العالم, آنسة, إنه مفيد لهذا العجوز الذي هو أنا و الذي لا يعرف إلى أين ذاهب و لماذا.
هذا ليس صحيحاً.
طبعاً أنا اعرف ذلك.
أتريدين أن أقوله لك يا آنسة؟ أنتِ التي لا زلت شابة و جميلة, نحيفة كثيراً بعض الشيء, شقراء كثيراً بعض الشيء و بشوشة كثيراً بعض الشيء. لا تعرفين ماذا ينتظرك! جهلك المخيف يُقلقني, و لذا أتمنى لك من كل قلبي أن تمنحك الحياة قريباً بكل كرمها اللا متناهي ألماً حقيقياً. أريدها اقل شُقرة, اقل بشاشة عندما تجلبين كل هذه المشروبات إلى المسافرين الجلفين في هذه الطائرة, هذه المشروبات الملونة العديمة الفائدة, لأن الشيء الوحيد الذي يستحق الشرب هو النبيذ الأحمر. هل تملكين عشيقاً يا عزيزتي؟ هل هو جميل عشيقك؟ إنه من العدل أن تملكين عشيقاً جميلاً لكي تمارسوا الحب معاً في أماكن رومانسية, اطمئني, سأخبره أنا, فلاديمير خوان دي لا فيغا, رجل عجوز متعب حيث يسافر لأول مرة في حياته.
ليما – دريسدن, ذهاب فقط, قلت ذلك بحزم أمام كوّة شركة سياحية ليست بعيدة من بيتي, أخذت التذكرة بعد أسبوع, دفعت ثمنها نقداً, والآن أنا هنا فوق الغيوم, في طريقي إلى دريسدن.
أخمّن أن دريسدن مدينة نظيفة جداً.
يقولون بأن الألمان يحبون النظام كثيراً, و أنهم لا يخطئون أبداً أي تفصيل, و أنهم دقيقون دائماً في مواعيدهم. بلد جميل! عندما أفكر بليما, اشعر بالحر يخنقني, وعندما أفكر بشقيقتي التي ترقد بسلام في المقبرة الكبرى, لا اعرف ذلك.
اذهب لزيارتها في ظهيرة كل يوم سبت. أجلب لها باقة من الورود حسب الفصل, و في الخريف أوقد لها الشموع و أعوّض قلّة صبرها بنفس الكلمات دائماً. قريباً, قريباً, أهمس على قبرها الأبيض, قريباً سألحق بك, أثناء ذلك اعتني بروحي, يا آدا, المعبودة, سترين أنه قريباً سنكون معاً مجدداً – أكثر من مرة في حياتي, تملّكني الإغراء لكي أكتب قصيدة شعرية, و لكنني لم أصدق أبداً هذا الإغراء الباعث على السخرية. صمدت, كرجل حقيقي, قمت بصدّ الجمال, بل بالعكس مارست مهنة من أكثر المهن كآبة في العالم. كسبت معيشتي بهذه الطريقة. أيامي, قضيتها في المكتب, بينما الأمسيات عشتها في البيت معها, مصغياً إلى الموسيقى. الموسيقى الأوربية العظيمة, الشيء الوحيد في العالم القادر على تعزية أرواحنا المعذبة, حيث حسب بعض الفلاسفة المتماشين مع التيار, لا وجود لها. ماذا كنت فعلت خلال كل هذه السنين دون ريكويوم موزارت, مجموعات فيولنسيل لباخ – موت إيزوتّا لواغنر؟ كيف كان بإمكاني أن أعيش؟ كانت هي, المغنية الشهيرة إيرمغارد شميدت, إمرأة عظيمة, سوبرانو ذات صوت إلهي, التي جعلتني أقبل أن شقيقتي آدا كانت قد ماتت و هي في الخامسة عشرة من العمر بسبب دفتريا عولجت بشكل شيء.
نحن الآن في ليما, أي في الغابة.
آدا لكان حتماً قد تمّ إنقاذها في دريسدن, و نحن لكنّا لا زلنا مع بعض, نطير الآن معاً إلى ألمانيا.
آه يا آدا – مُسنّة تقريباً مثلي, مع الروماتيزم في الرجلين و النهدين متهدلين! أقسم, لو أنها كانت حية, لكنا لا نزال نحب بعضنا البعض. كنا مقبولين و مُرَحّبٌ بنا في هذا العالم المليء بالرعب. سعداء قبل الرزيّة. ولكن في ليما, حتى المصائب هي هِبةٌ. عادة ما يتم شكر الربّ حتى من اجل المصائر الأكثر فظاعة. بهجة الناجي من الغرق. بحر من الشموع التي لا تُميّز بين السعادة و التعاسة. "حُبٌّ قدريٌّ". كرهتُ ليما طيلة كل حياتي, من كل قلبي.
الطقس دائماً حارّ في ليما.
شكراً حتى للحرِّ, ربنا الذي في السموات العليا, شكراً لك لأنك انتزعت روحي, أنتَ محقٌ, أعرف انه أفضل ألف مرة البقاء في حضن شقيقتي المحبوبة, روحي التي, هكذا يقال, في الحقيقة إنه محض ابتداع فحسب – أسطوانتي الأولى تلقيتها كهدية, مبادرة لطيفة و باهتة الحسّ. حسب رأي أصدقاء أبي, كان عليّ أن أنصرف عن ذلك, و في الحقيقة كانوا محقين في ذلك. بما أنني كنت لا أملك فينوغرافاً, في اليوم التالي اشتريت واحداً منه. منذ ذلك الوقت, لا يمضي يوم دون أن أكرّس كل وقتي الحُرَّ للإصغاء إلى الموسيقى. الموسيقى أنقذت حياتي.
لم أكن قد سمعت من قبل بقصة تريستانو و إيزوتّا, و حتى بمغنية اسمها إيرمغارد شميدت. قضيت وقتاً لا بأس به لكي أتعلم كيف أنطق اسمها. الآن أعرف كيف أنطقه. درست اللغة الألمانية أيضاً, إنها لغة صعبة, ولكن في النهاية, تمكّنت منها. طبعاً, فعلت ذلك من أجلها. لكي أقدم لها تهانيّ بلغتها في اليوم الذي سأقرّر فيه أخيراً أن أذهب و أصغي إليها شخصياً.
الآن أنا ذاهب إليها.
ستغني غداً مساء على مسرح سيمبرأوبر. على ما يبدو, يجب أن يكون مسرحاً جميلاً. سيقدمون تريستانو. طبعاً. سوف أصغي إليها و بعدها سأقدم لها أصدق تهانيّ. سأجلب لها باقة جميلة من الورود البيضاء و سأقول لها بلهجتنا القاسية نحن اللاتينيون:
Sie waren wunderbar, Madame.
لأنها ستكون رائعة. يجب أن تكون, لأن غداً مساءاً سيكون بين الجمهور واحداً من أكبر المعجبين بها, الكاتب بالعدل فلاديمير خوان دي لا فيغا الذي أتى من ليما لكي يصغي إلى غناء شقيقته – منذ الصغر, أنا و آدا نمنا دائماً في نفس السرير. كان أبي قد اشتراه من أفريقيا. كان أسوداً مع نطاق حوله مزين بأقنعة مخيفة التي كانت تتكلم أثناء الليل. هكذا بالضبط. دون أن تحرّك شفاهها, هذه الأقنعة كانت تروي لنا دائماً حكايات جديدة و مُعقدة. كان يجب علينا أن نكون يقظين تماماً, و إلاّ لكنا فقدنا مسار القصة و لم نفهم منها شيئاً. أنا و آدا كنا نصغي باهتمام. كنا نتعلم من هذه الأقنعة كل ما كان علينا معرفته عن الحياة, و عندما فهمنا كل شيء, عندما كنا مستعدين لذنبنا الساميّ, فجأة صمتت الأقنعة. كان سريراً حكيماً جداً, سريرنا. ناضجين و جميلين ,الواحد مع الآخر, قمنا بممارسته في حضنه القاتم, وعندما حانت أخيراً اللحظة, تحولنا إلى عشاق. و عندما كنا نتضاجع, أنتِ كنت تغنين لي, و أنا كنت أغني لك, و ليالينا كانت لا تنتهي أبداً.
كانت لا تنتهي أبداً, لغاية ما رحَلَتْ و أنا بدأت ارتدي قمصاناً بيضاء مكوية جيداً و أنشغل بأتفه الأشياء الموجودة في العالم. بعد موت آدا, الأقنعة توقفت عن الكلام و عن الغناء, و بما أنني كنت لا أحتمل ذلك الصمت المفاجئ, في أحد الأيام حطّمتُ سريرنا و جلبته إلى الشارع في الأسفل, أحد ما ربما اخذ القطع, لأنه في صباح اليوم التالي لم يكن يوجد لها أثر. أتمنى بأن ذلك السرير عاود الغناء مجدداً, سريرنا. كان لونه اسود, مثل شعر شقيقتي. لفترة لا بأس بها من الوقت, نمت على الأرض, و فيما بعد اشتريت سريراً من الخشب الفاتح, سرير عادي, ضيق, عفيف, سرير رجل قُدّرَ له أن يعيش العزلة الأبدية.
مارست الحب في أسرّة أخرى, دون أن أنظر أبداً في وجه تلك الموجودة تحتي. جعلت أجمل عاهرات ليما ينتحبن. كنّ ينتحبن من أجلكِ يا آدا, لأنك مُتِّ و هنّ كنّ يعشن, و كل واحدة منهن, على الأقل في اللحظة الأكثر جمالاً, لكانت قدمت حياتها لكي تنهضين من بين الأموات. ولكن لا نحيبهنّ السهل و لا دموعي القاسية أعادوك إلينا. كنت أتمنى أن أتحول إلى حجر عندما أخذوك, و في الحقيقة لقد تحولت إلى حجر, و فقط فيما بعد عاد إليّ دم الأحياء, الجوع, العطش و الرغبة. أكثر قوة, أكثر ضراوة عاد إليّ الحيوان الليلي, وحش بستة رؤوس, ولكن حتى بلا روح واحدة. لأن روحي أخذتِها أنتِ يا آدا.
و لأجلك يا آدا انتحبت نساء ليما, نساء الشوارع, آخر من يأتي في السُلّمِ, وجوههن المليئة بالبثور, بالندوب, أولئك اللواتي يقضون نحبهنّ في سن الشباب, ملوثات, مغتبطات, مرميات في حفرة جماعية دون وردة واحدة. انتحبن من أجلكِ و تحولن إلى جميلات, الشقيقات اللواتي لم تعرفيهن أبداً, خسارة, يا آدا, لأنهن كن مثلك, لأن حبي نفخ في أحضانهن روحك – فيما بعد, بدأت أصغي إلى تريستانو, إيزوتّا التي تغنيها إرمغارد شميدت, الصوت الإلهي, ألمانيا البعيدة, كم من الخطايا لأنني أحببت مرة واحدة فقط في الحياة! كانت تعزيني النهاية المأساوية لهذين العاشقين. كنت أصغي و أنا مستلق على سريري الجديد الذي كان لا يذكر التنهد. كنت أصغي, و خلال إصغائي كنت أنساك ببطء يا آدا. عثرت على كل الأسطوانات التي أصدرتها شميدت, و سرعان ما نمت مجموعتي و أصبحت كاملة. كنت أريد أن أعرف كل شيء عنها و لسنوات طويلة لم أنشغل بشيء عداها. في الصباح كنت أذهب إلى المكتب, و بعد عودتي إلى البيت, كنت ألقي بنفسي على السرير لكي استمع إلى صوت شقيقتي. يومي السبت و الأحد, كنت لا أنهض حتى من السرير, فقط في المساء كنت أنزل إلى الشارع لكي آكل واقفاً على قدمي دجاجة مشوية على طريقة الرابراسكا و حساء ساخن من البطاطا حلوة. أحياناً آيس كريم بالفانيليا كحلويات. الطقس حارّ في ليما, حارّ جداً بالنسبة لرجل أحب خلال كل حياته الأراضي الشمالية, البرد و الريح. إيرمغارد شميدت.
كان يعجبني ليس صوتها فحسب, ولكن اسمها أيضاً. أرى أن هنالك شيئاً متماسكاً فيه. شيء ما يجعلني أفكر حالاً بامرأة طويلة القامة و قوية البنيان ذات مبادئ أخلاقية راسخة, تملك خمسة أولاد شقر البشرة و ضخام البنية, و زوجاً صالحاً جدّي جداً, و في كل هذا كان هنالك شيئاً في منتهى التعاسة حيث وددت لو أبكي من أجل حياة إيرمغارد, كما بكيت من أجل موت معبودتي آدا.
يا لإيرمغارد التعيسة!
لماذا لم يحبك أخاك؟ لماذا لم يلامس ذراعك عندما كنت في الثالثة عشرة من العمر بالكاد؟ آه, لكان كل شيء مختلف, أليس كذلك؟ لما كان عليك أن تغني في كل العالم لو كنت أنا, فلاديمير خوان دي لا فيغا, أخيك؟ معبودتي آدا كانت محظوظة التي كان بإمكانها أن تغني فقط عندما كانت ترغب بذلك! كانت كسولة شقيقتي, كانت تحب أن تنام حتى ساعة متأخرة من النهار, و كانت لا تعرف شيئاً من شؤون البيت, كانت تعرف أن تُحبّب نفسها فحسب.
إذن انتظريني, يا عزيزتي, انتظريني على سريرنا الهامس, مُبعدة بصبر رغبتك الكبيرة.
أنا قادم.
غداً مساءاً – أنت لا تعرفين ذلك بعد – سأكون لديك.
هذا صحيح, لقد مضى وقت طويل, ولكن الحياة لم تتغير.
عندما أنظر حولي, أرى أن كل شيء بقي مثلما كان عليه في السابق. أقرأ على وجوه الناس نفس العذاب و نفس عدم الاكتراث السابق. أرى النساء الشابات, بتنوراتهن القصيرة و أرى فيهن المرأة الشريفة أو زانية المستقبل, أحياناً أرى الاثنتين معاً, متراكمتين الواحدة فوق الأخرى, الحنان و التقزز يملؤونني فجأة و يقطعون نفسي. هنّ النساء الجميلات اللواتي يجعلونني أبكي دائماً, لأن الألم هو الذي يخلق الجمال, بينما اللامبالاة تجعل المرء قبيحاً و تافهاً.
أنا أحب آدا, الربّ يشهد على ذلك, غير أنني أحب أخواتها اللواتي يشبهنها في الروح أيضاً, أحب كل النساء اللواتي لا يملكن حيلة أمام الحب, أحب من تفكر, بينما تغسل الثياب, في عُريها كوعد أو كهبة لعينة, أحب من يقع في شراك الحب كما في بئر, و أحب من يغني من أجل حبه, كما غنيت لي في وقت ما.
آدا, إيرمغارد, زمن قديم, أراض بعيدة, أنا على متن طائرة, فلاديمير خوان دي لا فيغا, فوق الغيوم لكي أصل إليك في عناق حيث سيكلفنا ليس أقل من الحياة!
في النهاية, الحياة لا تساوي كثيراً.
أريد أن أسمعكم تغنون مرة أخرى.
سوف لن أرجع إلى ليما. من الآن فصاعداً سأقوم بمشاويري في دريسدن. مدن حزينة, دُمّرت كلياً من الحرب, كم من الجراح المفتوحة و النصف مفتوحة, كم من الندوبِ, كم من البثور على وجوه نساء ليما و دريسدن المتعبات اللواتي يبعن أنفسهن في الشوارع كما لو أنه يمكنهن سد ظمأ الرجال, ظمأ الحب – ما الأجر الذي تتقاضيه عادة يا آنسة؟ ما هو سعرك؟ أتتبعين هذا الرجل العجوز المُتعب إلى فندقه؟ هل أنت مستعدة للغناء من أجله؟ أن تتمددين بقربه؟ أن تقبلين بأكثر الشتائم شناعة في العالم لأنك أنت تعيشين بينما شقيقتك ميتة؟ لماذا الحياة تمضي بصخب كبير في داخلنا و صمت عميق في الخارج. لأن آدا, معبودتي آدا, سوف لن تراها أبداً ثانية.
لأن إيرمغارد لم تًمسّ من شقيقها عندما كانت في الثالثة عشر من العمر بالكاد. لأن الموسيقى وحدها, الأخف من بين الفنون, التي تذهب و تجيء دون أن تترك أثراً منها.

أتأتين معي يا آنسة؟ أرى فيك الرغبة في أن تؤلمي نفسك. أشعر بأنك تعرفين – ربما دون أن تعي ذلك – أن الألم ضروري لكي نأتي إلى هذا العالم الفظيع. إصغي إلي جيداً: ربما هذه هي فرصتك الوحيدة. العرض الكبير الذي خبأته لك الحياة. توقفي للحظة. فكري جيداً.
إنها نفس الكلمات التي قلتها لآدا حينذاك, منذ زمن بعيد, و هي فهمت حالاً.
لا تجزعي يا آنسة, أرجوك. يمكننا إطفاء الأضواء. النقود ليست مشكلة. أنا رجل غني و ليس ذلك فقط. أنا رجل يعرف أن يبكي و أنت بحاجة لكلا الشيئين, النقود و الدموع.
لا تقلقي, لا يهم إذا كنت لا تعرفين الغناء. أنا سأغني لك. أنا سأغني لآدا و لإيرمغارد البائسة التي لم تًحبّ بما فيه الكفاية. ماذا ينفع التصفيق في النهاية؟ عندما تُطفأ الأضواء, المسرح يكون مظلماً, مظلم مثل تلك الغرفة التي ابتدع فيها طفلين على سرير هامس كلمة حب.
حب, أنت تعرفين ماذا تعني هذه الكلمة يا آنسة؟

ستيفاني غوليش من مواليد ألمانيا عام 1961. إجازة جامعية في عام 1987 و دكتوراه في الأبحاث عام 1991 في الأدب من جامعة هانوفر, نشرت في مجال البحث الأدبي دراسات عن إويي جونسون (1994) و إنجيبورغ باخمان (1997) , و أيضاً, منذ عام 1998, قصص و ترجمات من الإيطالية و الإنكليزية (أنطونيو بوتسي 2005, تشارلز رايت 2007, كاظم حيدري و كريستينا كامبو قيد الترجمة) بالإضافة إلى ذلك, نشرت "فيرمييس بلاو" (قصة قصيرة, 1998) و "بيرمونت" (قصة قصيرة, 2006) و مقالات نقدية كثيرة, قصص و ترجمات في مجلات أدبية في ألمانيا و النمسا ("نيو راندشاو", "أكزنته", "شبراخه إم تيخنيشن زيتالتر", "أوستراغيه"). في عام 2002 حازت على جائزة "وورث" الأدبية, و منذ عام 2007 تعمل محررة في المدونة الأدبية "الشعر و الروح".
ترجمة: يوسف وقاص

Home | Archivio | Cerca

Internazionale

 

Archivio

Anno 6, Numero 26
December 2009

 

 

©2003-2014 El-Ghibli.org
Chi siamo | Contatti | Archivio | Notizie | Links