قليلاً نحو الشمال
باربارة بومهوسل بقلم:
في الضباب الهلامي بين الحلم و اليقظة بدا لها واضحاً جداً الفرق ما بين فلمار العواصف الثلجية
(فولماروس غلاسيالويدوس - باللاتينية)(1) و البوغودروم القطبي (باغودروما نيفيا- باللاتينية) (2) . الأول كان قد وضع جانباً حتى الفرخ الصغير من سمك القُدّ الذي كان يحمله في منقاره ليبين لها ماذا كان يميز بالضبط أحدهما عن الآخر و ماذا كان يجمعاهما.
"فلمار" هو الاسم الشائع لأنواع كثيرة من الطيور ذات الشكل الانسيابي, التابعة لفصيلة الإدروباتيدي (3) و فصيلة البروسيللاريدي (4), التي دعيت بهذا الاسم لقدرتها على احتمال رياح العواصف التي تنذر بها أيضاً. كانت تعلم أنها تبني أعشاشها على اليابسة في عش مؤقت حيث, في البداية, تبنيها على مرتفع خارج الجليد أو الثلج, بينما لاحقاً تبنيها بطريقة أقل ظهوراً بين الأحجار أو في فجوة أرض.
الشخص الذي كان ممدداً بقربها لم يكن مهتماً بالتفاصيل, في الحقيقة لم يكن مهتماً أبداً بالموضوع, حتى لبعض عناصرها الأساسية.
تلك اللامبالاة كانت قد عذبتها في فترة ما, الآن لاحظت بداية نوع من الرد بالمثل, ولكنه كان شعوراً هامشياً لا تستطيع أن تتبينه بدقة. كانت قد رأت عالماً جديداً بأبعاد واضحة و مساحات حيث كانت تريح العيون و تعرفت على الأوائل من سكانه. و بينما عدم الاهتمام من قبله اتسع إلى حلقات مركزية واسعة, ازداد شغفها تجاه كائنات البرد الكبير. ارتدت البيجامة الشتوية, رغم أنه لم يكن يتبقى سوى بضعة أيام للبداية الرسمية لفصل الصيف, و جلبت من السقيفة البذلة المبطنة, تلك التي تستخدم في البيت أثناء أسبوع الثلج.
بدأت تحدق في المناظير المعروضة في واجهات محلات البصريات و كانت تغفو على مقالات مراقبة الطيور. أعادت انتسابها إلى المنظمة العالمية لحماية البيئة, كانت قد ظلت لبضعة سنوات ساهية جداً أو ربما متوترة و لم تدفع الإشتراك, رغم التنبيهات المتكررة و إرسال وصول الدفع. كانت قد حصلت على العنوان الالكتروني لأحد الأشخاص من داخل المنظمة الذي كان خبيراً في علم الطيور القطبية. كان يزودها بملاحظات, انطباعات, أسئلة أكثر تحديداً دائماً و هي كانت تراقب البريد أكثر من مرة في اليوم.
>
ثم حانت اللحظة الكبيرة للتسوق, صرفت راتباً برمته لشراء منظار مزود بالأشعة ما تحت الحمراء.
كانت تذهب إلى السرير باكراً في المساء, و كانت تحضّر نفسها في كل مرة كما لو أنها ذاهبة في بعثة: بيجامة مبطنة على أخرى من الفلانيلة, كتب عن علم الطيور في المناطق القطبية و المنظار على الكومودينة. اشترت لحافاً من الريش, ولكن قبل أن تقرر, عملت بطريقة لتفتق قليلاً البطانة – بينما تجرب ألبسة مختلفة – لكي تتأكد من نوع التبطين. نامت و النافذة مفتوحة على مصراعيها. هو كان غائباً, ساهياً, ولكنه كان يجهد في أن يبدو مستعداً. أبدى بغض الملاحظات حول المعدات الضرورية لزوجته لكي يذهب و ينام, و فقط لأنه كان يفكر بأنها كانت تنتظر ذلك.
مضى الخريف و الشتاء.
في الربيع بدأت تراقب السماء حتى و هي مستيقظة, كانت تلاحق بنظرها تحليق طلائع الطيور المهاجرة نحو الشمال. لم تكن من فصيلة الفلماريات, طبعاً, هم لا يتركون بيئتهم, ولكن هي كانت تحس برابط من القربى بينهما, مشاركة أكثر من واهية. في مساء أحد الأيام جهزت كيس النوم و صعدت إلى السطح. منذ تلك الليلة لم تنم ثانية في السرير الزوجي. لم تحاول الطيران, لم تكن قد فقدت عقلها كما شك بعض الجيران. لم تفكر حقاً بأنها تملك أجنحة بدلاً من الذراعين. كانت قد عشقت البرد فقط, الريح الجليدية التي كانت تصيبها بالقشعريرة و تجعلها تحس بأنها حية. رياح العواصف تلك كانت تمنحها إحساساً بالدفء, بالرخاء كما كان يفعله مرة الجلد العاري و الدافئ لإنسان يرقد بجانبها. ثم كانت قد وطدت علاقات صداقة. صداقات مع كائنات كانت تحب الريح و العواصف مثلها, منذ الأمد, و كانوا يعرفون كيف يتقاسمونها.
عندما أصبحت السماء داكنة تقريباً بسبب مرور أسراب الطيور, جهزت حقائبها. لم تلفظ كلمة "الفراق" أو حتى "الطلاق". كلا, هذه كانت تصورات تشكل جزءاً من حياة أخرى, هي كانت تريد أن تنتقل قليلاً إلى الشمال فحسب.
و ربما, في الربيع القادم, خطوة أبعد.
باربارة بومهوسل ولدت في نيوشتيفت بي شايبس في النمسا في عام 1959. بعد أعمال متعددة و تنقلات نالت إجازة في اللغات و ألآداب الأجنبية من جامعة فيينا. منذ عام 1988 تعيش في بانيو أ ريبولي (فلورنسا) حيث تشارك في مشروع لتشجيع القراءة في المدارس الإلزامية و في هيئة تحرير قسم "الفن القصصي للأولاد" لإحدى دور النشر الفلورنسية. تتعاون مع عدة دوريات شهرية و نشرت قصصاً و أشعاراً في أنطولوجيات إيطالية و أجنبية. و أيضاً على صفحات مجلات " لآريا دي بروكا", "نصف الدائرة" و "ساغارانا أون لاين", " داس غيدخت" ( ألمانيا) و "بوديوم" (النمسا". في عام 2000 و في عام 2003 حصلت على جائزة "ألبي أبواني" للشعر غير المنشور. في عام 2004 أحد أشعارها ظهرت في الانطولوجيا الشعرية "بولفيس" من منشورات غازيبو الفلورنسية. في عام 2005 دار نشر "سيميتشيركيو" نشرت مجموعتها الثنائية اللغة (إيطالي\ألماني) خوخ. في عام 2006 مجموعة شعرية أخرى, "تماثلات معاكسة" عهدت إلى الأنطولوجية الشعرية "الكتابة من أجل الكتابة" من منشورات ماسّو ديلله فاتهْ. و في نفس العام ظهر اسمها بين الكتاب المغتربين في الانطولوجيا التي أعدتها ميا ليكومته "على حدود القصيدة. الشعر المغترب بالإيطالية". للأطفال نشرت "أميرة الرمل الذهبي" (منشورات جونتي – فلورنسا 2007) و المجلدين الأولين من سلسلة " كالاميتيكا " (منشورات تورينو 2007) "حب و قملات و مخاطر و خراف", الكتابين الأخيرين كتبا بالتعاون مع الكاتبة أنّا سارفاتي.
ترجمة: يوسف وقاص
(1) ) ) طائر بحري من طيور القطب الشمالي
(2) طائر بحري من طيور القطب الشمالي
(3) فصيلة من الطيور البحرية ذات الشكل الانسيابي, تضم 21 صنفاً, مقسمين إلى 9 أنواع, تتواجد في معظم بحار الأرض و بالأخص في المحيط الهادي, تدعى طيور العواصف, ذات حجم صغير و ريش داكن, المنقار صغير ذو لون أسود, معقوف في ذروته, الأرجل طويلة لطيور البحر و الأقدام مسطّحة, الأجنحة متطاولة و مدببة تقريباً.
(4) صنف من الطيور ذو الشكل الانسيابي, يضم أصنافاً بحربة كثيرة بأحجام متفاوتة, يملك مهارات كبيرة في الطيران و في السباحة, ينتشر في المحيطات و السواحل بالأخص في نصف الكرة الشمالي, يشكل قسماً منه الفصائل الأربعة المكونة من الديوميدييدي , بروسيللاريدي و الإدروباتيدي.