El Ghibli - rivista online di letteratura della migrazione

عربية / english / español / franais



الحمامات العامة

ناتاليا سولوفيوفا بقلم:

ذاك الشتاء كان الطقس قاسياً جداً في موسكو. فوهات الآبار الموجودة على مفترق طرق الضاحية كانت كلها متجمدة, و كان على أبي أخذ جرادل ماء الشرب للاستخدامات المنزلية و جلبها على زلاجتي من البئر الوحيد و البعيد الذي كان قيد الاستعمال في الحي.
في البيت كانوا يقننون الماء بصرامة: كان يستخدم للشرب, للطبخ و تنظيف الأسنان. الحمام الأسبوعي كانت أمي تزاوله في المستشفى حيث تعمل, و أبي في حمامات المصنع.
أنا كنت الوحيدة في العائلة التي تحتاج للاستحمام, و هكذا إحدى عماتي التي تدعى فالنتينا, الشقيقة الكبرى لأبي, اقترحت على أمي أن تأخذني إلى الحمامات العامة, التي كانت ترتادها باستمرار لأنه, كما كانت تقول, كان البخار يريحها و يمنحها الحيوية.
كنت في السادسة من العمر و لم أكن قد رأيت حماماً عاماً من قبل, لأنه حتى ذلك الوقت كانت أمي تغسلني في ماعون كبير في المطبخ المزود بمدفأة تعمل على الحطب. أمي كانت تخشى تيارات الهواء البارد و كانت تتأكد دائماً من أن درجة حرارة الماء كانت تلك المناسبة, بينما العرق يقطر من جبينها. استناداً إلى اقتراح العمة فالنتينا فكرت أن الحمامات العامة يجب أن تكون أماكن جميلة جداً, لأن العمة لم تكن مرهقة و متوترة أبداً, بل كانت دائماً مسرورة و مليئة بالحيوية. تم هكذا اتخاذ القرار للذهاب معها.
في تلك الظهيرة من يوم السبت, حطّت الرحال عندنا و هي تحمل حقيبة كبيرة منتفخة مثل حدبة جمل ارتوى لتوه, كما شاهدت ذلك في كتاب مصور حيث أحضرته فوراً لكي أريها إياه.
"هل تجلبين الماء في داخلها لكي تغتسلي في الحمامات؟", سألتها و أنا أريها صورة الحيوان. العمة ضحكت و سمحت لي بتفتيش حقيبتها: كانت تحتوي على منشفة كبيرة من البشكير مقلّمة بخطوط حمراء و زرقاء, ليف طويل مصنوع من ألياف اللحاء و أغصان صفصاف يابسة محزومة معاً كالمكنسة, في الأسفل, كانت توجد الألبسة الداخلية النظيفة, ولكن العمة منعتني من لمسها.
"عندما سندخل إلى الساونا ستدلّكينني بأغصان الصفصاف", قالت بمرح.
أمي أيضاً كانت قد هيأت لي حقيبة تحتوي على كل الضروريات, ووضعت فيها كآخر شيء بطتي التي كنت استحم معها دائماً في البيت.
أما الحذاء ذو الساق الطويل فكنت أستطيع أن أرتديه بنفسي: كان يتطلب الجلوس على الأرض, إدخال القدم و شد ساقه إلى الأعلى, أصعب شيء كان أن لا تخلط اليمين مع اليسار لأنهما كانا متشابهان كثيراً. أمي كانت قد ربطت خيطاً أحمراً على الفردة اليمنى و خيطاً أزرقاً على الفردة اليسرى, كان يكفي القليل من الانتباه و الأمر يتم. بعد أن جعلتني أرتدي الحذاء, علقت أمي على رقبتي شريطاً من المطاط مع القفازين المرتوقان من الطرفين و فوقه معطف من فرو الخروف المزود بقبعة, و كان يكمل لباسي شال معقود من الخلف, حيث كان يغطي وجهي حتى العيون.
العمة كانت تملك معطفاً مبطناً بالقطن المنفوش, و ترتدي مثلي حذاءاً ذو ساق طويل من اللباد و تغطي رأسها باشارب من الصوف الذي يحجب كل جبينها.
"هل نحن مستعدون للانطلاق إلى الحمامات العامة؟", سأل أبي مبتسماً و هو جالس على الكنبة, كان مستغرقاً في قراءة الجريدة.
كان الهواء بارداً خارج البيت, ولكن في البداية جسدي الدافئ لم يشعر به. وضعنا حقائبنا على زلاجتي, أمسكناها سوية و بدأنا نسير عبر أزقة الضاحية.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر و مملكة بيضاء كانت تتأمل نفسها حولنا. كرة برتقالية شاحبة في السماء, متوارية و غير مبالية, لم يكن ينبعث منها أية حرارة. في ذلك الصباح كان قد سقط بما فيه الكفاية من الثلج ليغطي الشوارع, سطوح البيوت, الأشجار و كل الأسطح التي يمكن أن يستقر عليها. ضوءه كان ينتشر في الجهات. كحورية بيضاء, خافياً القاذورات, ملغياً التناقضات, مداعباً بيوتاً رمادية قديمة, كأنه أعاد إليها رونقها و نقاءها السابق.
طقطقة الزلاجة على الثلج الممهد كان لا يعكّر سكون الطبيعة, ولكنه كان في تناغم مع السكون الأبيض المخيم على الأطراف.

طاسات من الصفيح أو الخزف:" إنهم يعودون من الحمامات و بما أنّ أمهاتهن حريصات – قالت العمة – لذا لا يثقن بالطاسات المتداولة".
العمة وجهت إلى اثنين منهم نفس السؤال:"هل هنالك الكثير من الناس في الحمامات؟ كم من الوقت انتظرتم؟".
كانوا يجيبونها بحماس المنتصرين, لأنهم كانوا قد تجاوزا مشقة الطابور الكبيرة:"عندما خرجنا كان يوجد أناس أكثر مما صادفنا أثناء دخولنا, لقد اضطررنا لأن ننتظر أكثر من ساعة".
العمة كانت تنظر إلي بقلق:"سنضطر لأن للانتظار كثيراً يا ناتاليا, ما رأيك؟".
العمة فالنتينا كانت تناديني باسمي الكامل بدلاً من اللقب المعهود ناتاشا, و معها كنت اشعر أنني أكبر سناً و أكثر مسئولية.
"سننتظر يا عمتي, أنا لست تعبة. ولكن ستصطحبينني معك إلى الساونا؟".
" و حينذاك ستجلدينني بأغصان الصفصاف".
بقولها "الجلد" كانت العمة تستفز فيّ نوعاً من الجزع, ولكن كنت أفكر أنها تمزح.
في النهاية وصلنا. أيقنت أن الحمامات العامة تتواجد في ذلك المبنى الطويل ذو الطوابق الثلاثة, لأنه كان يوجد طابور طويل من الناس ينتظرون في الخارج.
"من هو الأخير؟", سألت العمة, كما يفعل عادة القادم الأخير.
"أنا", أجاب رجل صغير البنية كان يعتمر قلبقاً رمادياً من جلد الخروف و سترة طويلة مبطنة, و هو أيضاً كان يحمل تحت إبطه رزمة محزومة من أغصان الصفصاف اليابسة.
"يجب أن أجلده هو أيضاً؟", همست في أذن العمة و أنا أشير بإصبعي نحو أغصانه. العمة أطلقت ضحكة مدوية.
"يا حبذا يا صغيرتي, هو سيكون مسروراً من ذلك, ولكن الرجال يذهبون من جهة و النساء من جهة أخرى".
رغم أن ما قلته كان همساً, سمع الرجل كلماتي, و ضارباً يديه في القفازات الكبيرة أكد الأمر بطواعية.
"نحن نذهب إلى الطابق الثالث و أنتم إلى الثاني, ولكن فيما بعد الجميع إلى الطابق الأول في البوفيه لتناول كأساً من الجعة", ثم أضاف وهو يغمز من طرفي:"أو كأساً من الليمونادة".
"هل هذا صحيح يا عمتي أنك ستشترين لي كأسا من الليمونادة؟". كان بالفعل حلمي الطفولي تناول كأسا من الليمونادة في البوفيه: ابن جيراننا, بوريا, كان يكبرني بعامين فقط, و كان قد تناولها مرتين بصحبة أبيه, و لهذا السبب كان قد انتزع إعجاب أطفال الحي.
بعد فترة الانتظار, التي انقضت بسرعة لأنني كنت قد وجدت في الطريق قطعة من الجليد التي كنت أتزحلق عليها راكضة جيئة و ذهاباً, العمة نادتني.
دخلنا إلى البهو الواسع ذو السقف العالي. كان يوجد طابوراً في حجرة الأمتعة أيضاً, ولكن لم يكن طويلاً كما في الخارج. عندما وصلنا إلى الاستقبال, العمة بدأت تنزع معطف الفرو, ثم المعطف الداخلي و سلمتهما مع زلاجتي.
بالمقابل, الموظفة, و هي إمرأة عجوز التي كانت تبدو مشغولة جداً و ملامحها تنم عن الارهاق, أعطتنا قطعتين من الفيش لاستعادة معاطفنا, حيث وضعتهما العمة بحيطة في محفظتها.
ثم اصطففنا في رتل آخر أمام صندوق الدفع, ولكن لمدة قصيرة جداً.
"شخص بالغ و طفلة", قالت عمتي لموظفة الصندوق.
"كم هو عمر الطفلة؟".
"ست سنوات", أجابت عمتي. "إنها طويلة القامة بالنسبة لسنها. بعد الثامنة تدفع التذكرة كاملة. اقتربي لكي أقيس قامتك".
على الجدار القريب من الصندوق كانت معلقة مسطرة كبيرة من الخشب التي يقيسون بها قامات الأطفال. اقتربت و أنا أحاول أن أثني ركبتيّ. كان ينقص سنتيمترين إلى المتر و موظفة الصندوق سمحت لنا بأن ندفع تعريفة مخفضّة.
العمة وضعت التذكرة في المحفظة, مثلما فعلت مع الفيش.
"انتبهي لئلا يسرقونها مني أو أفقدها, و إلا سنبقى بلا معاطف في هذا الصقيع ...", قالت لي بصوت منخفض, بينما كنا نتجه نحو الدرج.
الدرج كان يؤدي إلى الطابق الثاني, حيث, فوق الباب- النافذة, كان مكتوباً بأحرف كبيرة "نساء": كنت قد بدأت أقرأ لافتات المحلات.
"لقد وصلنا تقريباً يا ناتاليا", قالت العمّة, و هي تحمل الحقيبتين. أنا كنت قد أخرجت بطتي و كنت أقول لها أيضاً أن تنتبه لمحفظة عمتي.
في النهاية دخلنا إلى حجرة تبديل الملابس للنساء. كان يوجد هنالك مقاعد كثيرة من الخشب مع خزانة للأحذية و في الأعلى خزانات للألبسة. بعد أن انتهت العاملة من توضيب مكان كان قد أخلي لتوه, بدأنا أنا و العمة في نزع ثيابنا. كنت فضولية جداً من البيئة الجديدة, من النساء اللواتي يرتدين ثيابهن أو ينزعهن, من الأطفال الذين يبكون و هم يظهرون مشاكساتهم. كنت أحدق بشكل خاص إلى السيدات العاريات اللواتي يحملن الاسفنج تحت اذرعهن و هن يخبئن ثدياهن بأيديهن بينما يتجهن نحو باب غريب تخرج منه أخريات مبللات الشعر, بأجساد محمرّة, متوهجة تقريباً. إحداهن جلست على المقعد المجاور لنا و كانت تتنفس بصعوبة.
"هل الجو حار في الداخل؟", سألت العمة.
"بقيت طويلاً في الساونا", ابتسمت المرأة, كما لو أنها تحس بوخز الضمير.
"كان يجب عليك أن تأخذي دشاً بارداً فيما بعد", أجابتها العمة.
"لم أعد أملك القوة لأتحرك, سأستريح الآن ... و أتحسن".
العمة هزت رأسها بالإيجاب. في هذه الأثناء, كانت قد نزعت ثيابها و كانت تساعدني في نزع القميص. الآن أنا أيضاً كنت عارية, كنت أشعر بالخجل و أحاول أن أختبأ خلف بطتي. العمة تناولت الاسفنجات و قطعة الصابون بيدها و انطلقنا. قبل أن ندخل عبر الباب الغامض, وقفت على الميزان و زانت نفسها.
"اتمنى أن نخرج ووزننا اقل بكيلو غرام واحد", صرخت.
في النهاية دخلنا. العالم أمامي كان مختلفاً تماماً عن ذاك الذي تركناه لتونا خلفنا, لدرجة أنني التصقت خائفة بعمتي. في البداية تراءى لي أن المكان في الداخل معتم تماماً, ولكن بعد عدة ثوان بدأت أرى المصابيح المنارة, التي كانت تنير بضوء خافت صالة كبيرة, مشرّبة بالماء و البخار, مع مقاعد واطئة من حجر الغرانيت.
في ذلك الضباب الرمادي و المدخّن كانت تتحرك أشكال عارية غريبة, غير واضحة لقلة الإنارة. كنا نذهب لأخذ الماء بالمواعين من الصنابير ثم كنا نعود لأماكننا لكي نغتسل.
مرت ثوان قليلة قبل أن استوعب أنهن كن نفس النساء اللواتي رأيناهن قبلاً في غرفة تبديل الملابس, ولكن كم كنّ مختلفات!
في ذلك المكان الحار و الرطب, كان يبدو لي و كأنهن فقدهن ملامحهن الاعتيادية, الأجسام كانت تبدو و كأنها قد تمددت من البخار, الأشكال العارية كانت تشبه في الظل الغير واقعي المطاط الذي صنعت منه بطتي.
كنت قد بقيت مندهشة لوجودي في ذلك العالم المظلم, لدرجة أنني تبولت, بطريقة لا يشاهدني بها أحد, بينما كنت أتقدم ببطء و أنا ممسكة بيد عمتي. بعين مجربة, كانت العمة قد لمحت مكاناً شاغراً و طلبت مني أن أنتظرها هنالك لكي لا يشغلوه.
"ابق هنا و لا تتحركي, أنا ذاهبة للبحث عن طاسات لي و لك", قالت و إختفت بخفة في البخار. بقيت جامدة و خائفة بعض الشيء و أنا أنظر حوالي. المرأة الجالسة بقربي على اليمين كانت تملك شعراً طويلاً, و كانت تسرّحه, جالسة على المقعد الغرانيتي, بقرب طاستها. تلك الجالسة إلى يساري كانت تفرك جسدها كما لو أنها تريد سلخ الجلد, كانت تملك ثديين كبيرين و البطن أشبه ببطيخة, ولكن وجهها كان حلواً و كانت ترسل لي ابتسامة كبيرة.
"أتفعلين لي معروفاً؟", سالتني بصوت عذب الذي لم يكن غريباً علي "أنا سأنحني و أنت ستفركين ظهري".
وافقت. وضعت في يدي ليفتها المصوبنة من شعر الخيل, تمددت على بطنها, و بينما أنا واقفة على قدمي أفرك ظهرها بكل قوتي, هي كانت تقول:" أكثر نحو اليمين, الآن في الوسط. إذهبي إلى الأسفل إلى اليسار".
كنت قد تعبت تقريباً, عندما في النهاية وصلت عمتي و هي تمسك بطاستين من الصفيح في يدها.
"لقد كنا محظوظتين يا ناتاليا, وجدت فوراً الطاسات, هذا ليس بالأمر القليل".
"أحقاً"- قالت جارتنا, التي كانت تزيل عن نفسها الصابون بالماء النقي – اليوم يوجد ازدحام, الحمامات بقيت مغلقة لثلاثة أيام متتالية للصيانة, و أولئك الذين كان يجب أن ياتوا في تلك الأيام هرعوا اليوم جميعاً معاً".
اتسع الحديث, و سرعان ما تجاوز حدود الحمام إلى الفضائح و بؤس الحياة اليومية للحي.
في ذاك الوقت أخبار الجرائم لم يكن يوجد لها أثر في الصحافة الروسية, و الأخبار كانت تنتقل من فم إلى فم, غالباً مشوهة و مبالغ فيها.
بعد تعقيم الطاسات بمحلول بودرة المغنزيوم, و كانت العمة قد جلبته لهذه الغاية معها, وضعت منه داخل بطتي و بدأت أغسلها, في هذه الأثناء كانت العمة تصوبن جسمها بقربي.
بينما كنت ألعب سمعت جاراتنا يتحدثن عن حادث مهول وقع في الحي: أحد الرجال قتل زوجته, قطّعها إرباً و من ثم التهمها.
امتلكني خوف شديد و أحد التفاصيل جعلني أقشعر: الشرطة كانت قد وجدت قطعة من رجْل المرأة في الحساء.
منذ ذلك اليوم بدأ رفضي لأكل الحساء باللحم. لا أطيقه حتى هذا اليوم.
في هذه الأثناء العمة كانت قد إنتهت من غسل نفسها و بدأن تصوبن رأسي. كنت لا أطيق غسله: مع أمي كنت أشاكس دائما, ولكن بما أنني كنت أتواجد في الحمامات العامة خجلت من البكاء, واكتفيت بتقليص حدقتي عيني. جلبت العمة ماعون الماء النظيف لكي تشطفني للمرة الأخيرة, و سكبته فوق رأسي. أحسست بشلال من الماء ينساب على جسمي, ولكن بعد أن تجاوزت حرقة الصابون في عيني لا شيء كان يدهشني, و ضحكت بمرح.
"فلنذهب إلى الساونا", قالت حينئذ العمة ممسكة بيدي, ثم عبرنا صالة الحمام. في آخر الصالة كان يوجد بابًا صغيراً من الحديد الثقيل, فتحته العمة و دخلنا في ذاك الذي اعتقدت كما لو أنه باطن الأرض. في ذلك الوقت كنت لا أستطيع أن أعبر بالكلمة عما كنت أشعر به, ولكن الإحساس كان ذاك.
بخار حار و جاف لفح في البداية وجهي و شعري ثم كل جسدي. تباين درجة الحرارة كان قد حدث فجأة, و الجسد بقي متردداً لبضع ثوان فيما إذا كان يجب عليه أن يقبله أم لا. ثم شيئاً ما تحرك في داخلي و بدأت اشعر بدفء لذيذ في كل مكان: العضلات ارتخت و انفتحت مجاري التنفس. كنت أرغب بمطّ جسدي قدر المستطاع فأخرجت لساني.
"إنك تبدين ككلب في الحرّ", ابتسمت العمة, قادتني نحو مقعد شاغر, تمددت فوقه ووضعت في يدي أغصان الصفصاف.
"قومي الآن بعمل جيد: اجلديني قدر ما تستطيعين".
انتابني الشك لبرهة, ثم لمحت فوق المقعد المجاور شبح إمرأة جالسة تجلد نفسها كتلك الأغصان التي بحوزتنا. كانت تحاول بجهد الوصول إلى ظهرها, حينئذ فهمت كلمات العمة.
كان جسدها منحنياً أمامي: كنت على مستوى كتفيها, أرى ظهرها الأملس و الوركين المدورين, بينما الرجلين كانتا تختفيان في ضباب البخار. بدأت أجلد ظهرها ببطء, منتظراً في كل مرة شكواها, ولكن العمة كانت صامتة, تتنفس بعمق و تهمس لي:" أشد قوة يا ناتليا, أشد قوة".
بدأت أقلد إيقاع حركات المرأة المجاورة, معجبة بتلك اللعبة, تخيلت كما لو أن جسد العمة هو بياض البيض الذي تخفقه أمي بالخفاقة مع السكر, ثم تضعه في الفرن, الذي كانت تخرجه بعد عدة دقائق قطعاً حلوة و معطرة, ترف يعود إلى طفولتي. جلدت جسد عمتي من الكتفين حتى القدمين و بالعكس, كما كانت تهمس لي بين نفس و آخر. ثم جلست العمة على المقعد. احتضنتني و طبعت قبلة على خدي. جسدها, الذي كان قد ارتاح أكثر, كان يذكرني بالفيونيل الضخم الذي سمعت عزفه من إحدى جاراتنا التي كانت تدرس في المعهد الموسيقي.
العمة – الفيونيل نهضت عن المقعد و خرجنا سوية من الساونا. بعد دش بالماء البارد في صالة الحمام, كنا في الخارج, بجانب حجرة الأمتعة.
بعد الانفعال العنيف في الحمام, بدت لي غرفة الأمتعة كما لو أنها مأوى مريح مزود بوسائل الراحة.
العمة لفتني بمنشفة كبيرة و أجلستني على المقعد. كنت بلا حراك, مستندة على المسند, مستمتعة بهدوء و سكون الصالة. الخادمات كن يقدمن المشروبات و العمة طلبت لي كأسا من الليمونادة. بعد أن استحممت كما يجب و جفّ البخار على جسدي, كنت اشعر بنفسي خفيفة كالريشة. وصول الليمونادة جلب سعادتي إلى القمة. العمة أخذت بيدها القنينة و أفرغت محتواها في كأسين. هي أيضاً, ملتفة بمنشفتها, جالسة بقربي, تستلذ بمشروبها. كلانا كنا مسرورتين. بعد إنتهاء الليمونادة, العمة بدأت ترتدي ملابسها و هي تردد أغنية دارجة في ذاك الوقت, بينما أنا كنت أحاول أن أتتبعها. الخادمة التي كانت قد أتت لتسترد الكؤوس الفارغة كانت تنظر إلينا بضحكة فوق فمها المجعّد, ثم لفظت التحية المعهودة و أمنية روسية لأولئك الذين عملوا حماماً جيداً:"فليمنحكم البخار الخفة".
"شكراً", أجابت عمتي. كانت مسرورة, و مرحها كان يبدو بالعين المجردة. كان يجب علينا أن نعود إلى العالم المألوف, و العمة بدأت تلبسني. القميص الداخلي و السروال من القطن, قميص من الصوف, سروال آخر من الصوف, كولانت و بنطلون ثقيلين, و في النهاية, كنزة صوفية. كنا قد وصلنا إلى الحذاء ذو السيقان الطويلة. العمة فتحت الخزانة حيث كانت قد وضعت حذاءها و حذائي و أخرجت منه زوجاً من الأحذية الكبيرة و آخر صغير.
"و الفردة الأخرى أين هي؟", سألت بصوت منخفض.
وضعت يدها داخل الخزانة محاولة الإمساك بالحذاء, ولكن لم يكن يوجد أثر للفردة الأخرى.
"مستحيل" – قالت العمة – "لقد سرقوا لك فردة".
بدأت أبكي. انفعالات ذلك اليوم وجدت سبيلها لكي تخرج. بعد السعادة الغامرة أحسست بأن سرقة فردة الحذاء كان شيئاً غير منصفاً و محبطاً.
"لقد سرقوا لي فردة واحدة فقط, ليس حتى الفردتين, فردة واحدة", كنت أتابع التكرار في نفسي. الخسارة كانت تبدو أكبر حجماً أيضاً لعدم استيعابي الحادث, للسوء, و للرغبة الغير مفهومة لأحد ما لكي يترك طفلة بلا حذاء في صقيع موسكو الشتوي.
كانت ذلك أول صدام مؤلم و واعٍ مع واقع العالم. كنت قد أدركت بطريقة ما أن كل شيء في هذه الحياة له ثمن, و شعرت أنني ضعيفة و غير محمية: أحدهم سرق الحذاء المبطن, أحدهم كان يحاول تحطيم سعادتي.
بكيت يائسة لبضع دقائق.
"إنها مزحة خسيسة", قالت العمة بامتعاض. كان هدوءها أيضاً قد إختفى و هي أيضا لبرهة من الوقت أحست بأنها مغبونة.
النساء حولنا اقتربن منّا بسماعهن نحيبي الشديد.
"لقد سرقوا حذاء الطفلة", الكلمات كانت تتطاير في كل الجهات.
أتت نفس الخادمة ذات الفم المتجعد, ولكن الآن فمها لم يكن يبتسم: كانت مشدودة دليل غضب, عيونها الشاحبة كانت قد اتخذت لون المعدن. بحركات حادة كانت قد بدأت بفتح كل أدراج الخزانة المجاورة للبحث عن الحذاء المسروق.
أدراج و درفات غرفة الأمتعة كانت مفتوحة, ولكن لم يكن يوجد أمل, لم يجدوه في أي مكان.
"أي صنف من الناس هؤلاء", كانت تتمتم المرأة الموجودة على يميننا.
"جبناء – قالت تلك الجالسة على اليسار – أن يتركوا طفلة بلا حذاء في هذا الصقيع, أي قلب من الحديد يجب أن يمتلك ليقوم بمثل هذا العمل".
كلهن كن يعبرن بكلمة أو بأخرى عن المرارة التي يشعرن بها.
بعد أن وجدت نفسي محط الأنظار هدأت فوراً, في هذه الأثناء, النساء انتقلن من الكلمات إلى الأفعال. إحداهن جلبت إلى العمة منديلاً من الصوف لتلفه على قدمي, لتسمح لي هكذا بالوصول لغاية البيت. كل إمرأة كانت تجلب غرضاً سميكاً لكي يساعدوننا في تجاوز المحنة. كنت أحس بنفسي بطلة, و قلبي كان يمتلأ أكثر فأكثر بالفخر. كنت أمر من أمام الأمتعة المصطفة و كل إمرأة كانت تمرر يدها برفق على شعري أو خدي.
بجمع كل الأغراض التي يمكن أن توفر الدفء المقدمة من النساء, عصبت العمة ساقي برُقعٍ أعطتنا إياها الخادمات, و بشال من الصوف.
في الختام, وضعوا لي غلاف حذاء إحدى الخادمات, الذي تستعمله لتنظيف الحمامات من الداخل.
"اجلبيه لي حالما تسنح لك الفرصة", قالت للعمة التي هزت رأسها بالموافقة, و هي تربط الرقعة الأخيرة حول قدمي.
بساق تبدو كما لو أنها موضوعة في الجس نزلت هكذا إلى الطابق الأرضي حيث توجد المعاطف. كان الخبر قد وصل إلى الخادمات الأخريات و ساعدوا عمتي لكي تجعلني أرتدي ملابسي,
المطاط مع القفازات, معطف الفرو, القبعة, المنديل لتغطية الأنف, الإشارب: في النهاية كنا مستعدات للخروج من المبنى.
باقتراب المساء كانت درجة الحرارة قد انخفضت أكثر: كنت أحس بالهواء البارد حولي. العمة وضبتني في الزلاجة واضعة فوق قدمي الحقيبتين. أمسكت بالحبل و انطلقنا نحو البيت.
كانت ليلة صافية. كنت أرى فوقي القبة الداكنة للسماء تزخر بالنجوم المشعة مثل الكاراميلا البيضاء الشفافة المعروضة في صحن من الزجاج الداكن في واجهة محل الحلويات بجوار بيتنا.
بين فترة و أخرى كنت أغفو و أنا أفكر بالكاراميلا, و العمة كانت توقظني بلمس يدي و قدمي. "هل تشعرين بالبرد يا ناتاليا؟ لا تنامي: سنكون في البيت بعد قليل".
أنا كنت أهز رأسي بالإيجاب, ولكن فيما بعد كنت أغفو ثانية. كنت لا أشعر بالبرد, يدي و قدمين كاناا دافئين, ولكن كنت متعبة كثيراً, و كانت أجفاني ثقيلة جداً لدرجة أنني كنت لا أتمكن من الإحتفاظ بعيني مفتوحتين.
أيقظني صوت أبي, الذي حملني بين ذراعيه و جلبني إلى البيت. وضعني فوق الكنبة, أمي بدأت تنزع معطفي. كنت اسمع من بعيد بعيد صوت عمتي التي كانت تروي قصة الحذاء, و ضحكة أبي. رأسي كان يزداد ثقلاً أكثر فأكثر, قبة السماء كانت قد نزلت إلى الأسفل, و أنا كنت أحس بفمي الطعم العذب للكاراميلا, لغاية ما سقطت في نوم عميق.
في صباح اليوم التالي, أيقظني أبي لأن أمي كانت تخرج باكراً من البيت لتذهب إلى العمل. حضرت حقيبتي المدرسية, كان يجب أن أذهب إلى الروضة بعد طعام الفطور. ثم, فجأة, خطر ببالي الحذاء المسروق. نظرت إلى الزاوية التي توجد فيها عادة, ووجدت زوج الأحذية في مكانهما.فتحت فمي من الدهشة و بدأ أبي يضحك.
اخبرني بأنه كان قد سمع أنه قبل بضعة أيام, جارنا, و هو طفل يدعى بوريا, سرقوا له فردة حذاء في الحمامات العامة. هذا الصباح, بينما كنت لا أزال نائمة, أبي كان قد ذهب ليطلب من والدة بوريا أن تريه فردة الحذاء. كانت الفردة اليسرى و أنا كانت قد تبقت لي اليمنى. أبي قاسهما: كانا متطابقين تقريباً. عندئذ طلب من المرأة أن تبيعه الحذاء, ولكن والدة بوريا أعطته إياه بلا مقابل, لأنهم كانوا قد اشتروا زوجاً جديداً من الأحذية لبوريا و الفردة المتبقية كانت عديمة الفائدة. ولكن أنا لم أكن مسرورة تماما, لأنني بعد أن ارتديتهم أحسست أن تلك العائدة لبوريا كانت اقل راحة من حذائي.
لحسن الحظ, بعد شهر أبوي اشتريا لي زوجاً جديداً من الجلد ذو الساق الطويل, لأن قدمي كانتا قد نمتا و الثلج كان قد ذاب: كان لم يعد بالإمكان المشي بأحذية من اللباد, التي تلائم الثلج الجاف و البرد القارس فقط.
العمة فالنتينا أخذتني معها إلى الحمامات العامة مرتين أو ثلاث مرات أخرى, لغاية ما انتقلنا إلى شقة مزودة بحوض و دش و بعدها نسيت الحمامات العامة.
في أحد المرات, و كنت قد كبرت, بينما كنت أعبر من جواره, امتلكتني الرغبة بدخوله. صالة تسليم الملابس بدت لي ضيقة و منخفضة أكثر, و صالة الحمامات مرتبة و ليست معتمة أبداً. الساونا كان عبارة عن غرفة صغيرة مع موقد متوهج. امرأتان كانتا جالستان على المقعد, و لم أر أغصان صفصاف. كان البخار قليلاً, أناس قليلون, لا أثر للأرتال. عاملة الصندوق أخبرتني أن الحمامات العامة ستغلق أبوابها جميعاً في غضون زمن قليل, لأنه الآن في موسكو كل الشقق مزودة بالحمامات و الناس تستحم بارتياح في بيوتها.
و الأزمان التي كان الصقيع فيها قاسياً كانت قد انتهت. الشتاء أصبح معتدلاً و ممطراً.
"الأزمان تتغير و كل شيء يمر", يقول الحكماء. ولكن في أعماق ذاكرتي بقيت محفورة سعادة الطفلة أمام كأس لليمونادة بعد الحمام الساخن و تجربة مريرة قاسمتها مع الآخرين.


ناتاليا سولوڤيوڤا من مواليد موسكو 1946. تعيش في بلدة " كاردانو أل كامبو" (إيطاليا) منذ عام 1973. مهندسة ميكانيك و تعمل في حقل الترجمة التقنية. في عام 1998 فازت مناصفة مع مترجم هذه القصة بجائزة "إكس & ترا" و هي مسابقة أدبية مخصّصة للمغتربين الذين يكتبون باللغة الإيطالية.

ترجمة: يوسف وقاص

Home | Archivio | Cerca

Internazionale

 

Archivio

Anno 4, Numero 18
December 2007

 

 

©2003-2014 El-Ghibli.org
Chi siamo | Contatti | Archivio | Notizie | Links