هذا ما تقوله أغنية إيطالية حزينة جداً.
أنا لست إيطالياً, بل إثيوبي, مسيحي و أعتقد أنني أبلغ الثامنة و الثلاثون من العمر. أقول أعتقد, لأنه لم يكن يوجد لدينا دائرة للسجلات المدنية عندما ولدت, على الأقل لم تكن توجد في قريتي. اسمي إسحاق, أملك ولدين في إثيوبيا, ولدوا من زوجتي الأولى التي لم تشأ الإلتحاق بي في إيطاليا, وولدين صغيرين, ولدوا هنا من شريكة حياتي الحالية. كما تقول الأغنية, عملي منذ أكثر من عشرة سنوات هو جلب القهوة إلى النساء و الرجال, في الحقيقة أقدم لهم ويسكي و شمبانيا أكثر مما أقدم لهم من القهوة, و أحياناً صندويشات و توست.
لا أكتفي في عمل البارمان و النادل. عندما يغادر الزبائن المحل, يجب علي أن أرتّب الأسرّة أيضاً, أبدّل المناشف, أنظّف منافض التبغ و أكشف فيما إذا كان كل شيء على ما يرام في الحمام و إعداده للزوج التالي من العشاق.
كان يبدو و كأن العمل سهل, ولكن لم يكن هكذا دائماً.
كان ذلك في عام 1968 عندما وجدت هذا العمل. كنت لا أجيد كلمة واحدة بالإيطالية. كنت لا أعرف ما هو السرير و لم أكن رأيت من قبل مكنسة كهربائية و لا ملمّع أرضيات. لم أكن أملك فكرة أيضاً عن ماهية ملطّف الجو.
الآن يمكنني أيضاً إستيعاب التعبير السيء: - زنجي قذر! –
يجب أن أعترف أنني لم أكن نظيفاً تماماً عندما وظفوني كيد عاملة. حينذاك, كانت مهمتي تنظيف الحديقة, المرآب, غسل السيارة, و أحياناً الزجاج.
كنت نحيفاً جداً و كانوا يقدمون لي وجبات وافرة جداً, ولكن كنت لا أستطيع أن آكل كل تلك الأشياء, و لذلك كنت أرميهم في جرن المرحاض, لكي لا يكتشفوا أمرها أولئك الناس اللطيفين جداً.
هم بدأوا يقدمون لي طعاماً أكثراً. في أحد الأيام انسد مجرى المرحاض و بالتالي اكتشفوا أين كانت تذهب كل تلك الخيرات.
كلهم بدأوا بالصراخ و هم يهددون بطردي. نعتوني بناكر المعروف و سببوا لي وجعاً أليماً في رأسي, لأنني لم أكن أفهم أيضاً شيئاً مما كان يحدث.
في ذلك الوقت, الفندق لم يكن في وضعه الحالي, كانت تعيش فيه عائلات بأكملها, أناس كانوا قد قدموا إلى الشمال للبحث عن عمل مثلي, أو طلاباً, أو أناس كانوا لا يملكون النقود لدفع الآجار.
صاحبة الفندق, كانت إمرأة جميلة حيث كانت تبكي و تصرخ باستمرار. ليس بإمكاني أن أشرح لكم السبب. كانت تملك إبنة تدرس و أماً مسنّة حيث كانت لا تتكلم أبداً.
السيدة المسنّة كانت تتولى الطبخ و التسوق. كانت تكوي مراييل حفيدتها أيضاً, و بذلات الخدم. كانت إمرأة متواضعة, ولكن كان يبدو أنها كانت تعرف أشياء كثيرة, لأن حفيدتها كانت تذهب إليها باستمرار بدفاترها المفتوحة لتسألها بعض الإيضاحات. هم أيضاً لم يكونوا إيطاليين, فهمت ذلك في وقت متأخر فقط.
أدركت بأن أمها كانت تبكي مراراً لأنهم كانوا لا يملكون النقود لدفع الآجار, و المالك كان يهددهم بالطرد.
في تلك السنين, أثناء الشتاء, كان الطقس بارداً في ميلانو.
فهمت متأخراً جداً كم كنت محظوظاً. كانوا قد أعطوني غرفة صغيرة في السقيفة, و كنت أضطر للانحناء كثيراً لكي أحمي راسي, رغم أنني لست طويل القامة.
السقيفة كانت مزودة بالتدفئة و كان يوجد بها مغسلة.
أبناء بلدي كانوا يعيشون في ظروف أسوأ, مكدسين تحت أدراج ذات رائحة نتنة أو في أقبية رطبة.
كنت لا أكنّ المحبة لصاحبة الفندق, لأنها كانت تصرخ كثيراً و لم تكن أبداً راضية من عملي, كانت تهدد دائماً بطردي.
بينما كنت أودّ كثيراً ابنتها. كانت قد فهمت أنه, فيما إذا كتبت لي الملاحظات, كان بإمكاني أن أفهم بشكل أفضل ما كانوا يطلبونه مني. كانت تحاول أن تشرح لي الأشياء دون أن تلاحظها أمها. علمتني كيف أغتسل و كيف أستخدم الملطّف. كانت تهديني ألبسة مستعملة ( كثيراً من تلك الألبسة كانت لزبائن هربوا من الفندق دون أن يدفعوا الحساب), كانت تحاول أن تجعلني أحصل على بعض البخشيش و, عندما علمت أنني أملك شريكة, ساعدتني في العثور على بيت في المساكن الشعبية.
بيتي الحقيقي الأول, لازلت أسكنه, رغم أنني اليوم يمكنني الحصول على بيت أجمل. أحب ذلك البيت الصغير الذي شهد ولادة أطفالي, الذي تعلمت أن أدهنه لوحدوي, حيث كل مسمار تمّ وضعه من قبلنا, من قبلي و من قبل شريكة حياتي.
حينذاك, كنت أبعث قسماً من راتبي إلى زوجتي الأولى, إلى أولادي الكبار, إلى والدي و والدتي, كان يبقى لدي القليل, لأنه كان يجب علي دائماّ امتلاك تذكرة سفر إلى إثيوبيا في جيبي أيضاً: كان يجب على أصحاب العمل دفع ثمن التذكرة, ولكن, حينذاك, لا أحد كان يتقيد بذلك.
و التأمينات التي كانوا يدفعونها لي أيضاً كانت أقل من ساعات العمل الفعلية, ولكن لما كنت شكوتهم أبداً إلى النقابات, سواء بسبب الخوف من أن لا أجد أعمالاً بديلة, و سواء لأنني كنت لا أفقه كثيراً في أمور التقاعد و الحقوق. رغم ذلك, لكنت إشتغلت لهم حتى دون أن يثبتوني.
الحياة كانت تسري بما فيه الكفاية من الهدوء, و عندما ولد إبني توماس لم أكلمها بالموضوع. ولكن عندما وجدت شريكتي مكان عمل أفضل, إضطررت أن أطلب الأذن لأستطيع أن أجلبه معي إلى مكان العمل.
إبنة صاحبة العمل كانت تبقيه معها بينما تدرس, و عندما علمت أنني لم أسجله في دائرة الأحوال المدنية, غضبت كثيراً و ساعدتني في تعديل وضعه.
توماس اليوم إيطالي ولكن في الوثاثق اصغر بسنتين من عمره.
الأمر كان أكثر سهولة عندما ولدت إيزابيل.
الأمور انقلبت رأساً على عقب في اليوم الذي حضر فيه الضابط القضائي ليبلغ أمر إخلاء البيت.
الفندق تمّ إغلاقه و الزبائن طردوا.
صاحبة الفندق كانت تصرخ و تبكي أكثر دائماً, آنذاك, لم أكن أملك بعد شقتي المتواضعة و كنت أخشى من أن أضطر لمغادرة البلد.
الإمرأتان استطاعتا أن تبقياني, الزبون الوحيد, في فندق فارغ.
الإمرأتان كانتا دائماً في الأرجاء, الأم كانت قد باعت كل مجوهراتها و بعض الأثاث أيضاً. لم يدفعوا راتبي, ولكنهم تركوا لي السقيفة, و عندما كانت تحين ساعة الغذاء, كانوا ينادونني دائماً.
في مساء أحد الأيام, أتت سيدة لزيارتهم. كانت فظّة بعض الشيء و كانت تتقلد مجوهرات كثيرة, بينما الفرو الباهظ الثمن, كان لا يجمّل جسدها القبيح. صاحبة الفندق تكلمت مطولاً معها, كانت تتابع الترديد:" ولكن أنا لا أملك إبنة!". والأخرى كانت تجيب:" إذن؟ ستدرسين ابنتك".السيدة وقعت على شيك و تركته لهم.
بعد أيام قليلة, تغيرت حياتي نحو الأفضل. السيدة أخبرتني بأنه يجب علي أن أتعلّم ترتيب الأسرّة و تنظيف الغرف.
وهكذا تعلمت أن أستخدم الأجهزة المنزلية و امتلكت بذلة عمل مستعملة.
صاحبة الفندق كانت تعمل أيضاً, بينما ابنتها كانت تدرس و هي جالسة على طاولة الصندوق, أمام سجل ضخم.
بعد أن افتتح الفندق بعدة أيام, امتلأت الغرف بالزبائن, ليس بطلاب أو بعمال ممن يبحثون عن سكن, بل بأزواج من العشاق الذين كانوا يبقون لبضعة ساعات, أحياناً لبضعة دقائق فقط. أنا كنت أفضل هؤلاء الأخيرين: الغرفة كانت مرتبة تقريباً عندما كانوا يغادرونها. كان يجب أن أكون حذراً من سلاّت المهملات فقط. كانوا قد أوصوني بأن أرتدي القفازات أثناء تفريغها, ولكن أنا كنت لا أستعملهم أبداً. هكذا تعلمت ما هي الأنابيب المطاطية الواقية.
حتى ذلك الوقت, كنت لم أرى واحداً منهم و كنت لا أعرف الغاية من استخدامهم.
بينما أزواج العشاق الذين كانوا يبقون لعدة ساعات, كانوا يتركون الغرفة و كأنها ساحة معركة. كان يجب أن أسرع في تغيير الملاءات لأنه كان هنالك زوجاً آخراً من العشاق ينتظران دورهما. كان يبدو و كأن العمل لا ينتهي أبداً. الغسالات كن يمتلئن و كان يتم تفريغهن باستمرار, كالخادمات اللواتي يأتين و يذهبن بإيقاع سريع.
فهمت في وقت متأخر فقط أنه بالنسبة لبعضهن كان العمل سيئاً لسمعتهن المستقبلية, بينما بالنسبة لأخريات كانت فرصة سهلة لكي يتحولن إلى زبونات بدلاُ من أن يبقين عاملات نظافة !
لهذا السبب, تم توظيف أحد أبناء جلدتي الذي كان يعمل في الليل و ينوب عني.
الآنسة كانت تهيء القهوة, تغسل الكؤوس, تحضر الفطور, و تهتم بساعات الاستيقاظ.
نعم, لأنني لم أذكر لكم أن الغرف كانت تؤجر في آخر الليل لأشخاص حيث كانوا يبقون حتى الصباح.
فقدت حساب الملاءات التي كنت أغيرها كل يوم.
كان قد تم تسديد الديون بعد ثلاث سنوات من العمل المضني, ولكن تم دفعهم. الفندق تم تبييضه و تجميله, وضعت أجهزة هاتف في الغرف, و في النهاية, تم إيجاد خادمات أغرين من الرواتب الجيدة.
الآنسة كانت تعيش و هي تعمل و تدرس في كل الليالي. أحياناً, كانت تأخذ مكان إحدى الخادمات اللواتي لا يحضرن إلى العمل. قلما كانت تخرج و لم تكن تملك أصدقاء.
كانت الأم قد أصيبت بمرض القلب, ربما لأنها بكت و صرخت كثيراً.
في أحد الأيام نقلت إلى المستشفى حيث أخبروها أنه إذا لم تجر لها عملية جراحية فورية لقضت نحبها.
الأطباء قرروا أنه فيما إذا أجريت لها العملية في العيادة لكان بإمكانهم القيام بها فوراً, بينما إذا إختارت المستشفى ستنتظر أشهراً.
أذكر انطباعات الخوف على وجه الآنسة, اتصلت بتلك السيدة, صاحبة الشيك.
في تلك المرة أيضاً وصل الشيك. كانت أياماً صعبة, دون صاحبة الفندق و دون الآنسة, كان من المستحيل أن نعمل.
كانت الآنسة تتواجد دائماً في المشفى و الفندق بقي مغلقاً لأكثر من عشرون يوماً. السيدة كانت لا تتماثل للشفاء و المشفى كان مكلفاً جداً.
أعدنا فتح الفندق, و أنا وجدت نفسي مترفعاً إلى مرتبة بواب. تعلمت أن أدون أسماء الزبائن و أُحَصّل النقود منهم.
غالباً ما كانوا يهينونني, ولكن كنت لا أنقله أبداً للآنسة لكي لا تقلق.
ولكن في أحد الأيام, إضطررت أن أتشاجر مع احد الزبائن الذي كان لا يريد أن يدفع ﻠ "زنجي قذر". الآنسة سمعته و خرجت من الغرفة, حيث كانت تستريح, كزوبعة هائجة. أمسكت الرجل من ربطة عنقه وكادت أن تخنقه, مهددة إياه بأن لا يطأ ثانية الفندق.
كان واحداً من أفضل زبائننا, كان يصرف كثيراً و يرتاد الفندق باستمرار.
منذ تلك اللحظة, إذا إفترضنا أنها لم تكن بعد, الآنسة أصبحت بالنسبة لي أكثر من أخت.
في اليوم التالي أسندت لي مهمة الإيداع اليومي في البنك. الآنسة كانت تخاف من ترك النقود في البيت و هكذا كانت تترك لي حصيلة الليل في مكان كنا نعرفه نحن الإثنين فقط. في الصباح, قبل أن أبدأ العمل, كنت أتكفل بدفع المستحقات و التسوق اليومي.
الزبائن كانوا لا يقبلون بأن يحضر القهوة لهم زنجياً, و العاهرات أيضاً, كانوا لا يطيقون أن زنجياً يغسل الكؤوس.
كانوا يقبلون القيام بأشياء أكثر بشاعة, مع أشخاص أكثر قذارة مني, كانوا يضاجعون الزنوج أيضاً, ولكن كانوا لا يقبلون أن ً يغسل الفناجين زنجيا.
حينذاك كل العاهرات كن من البيض, معظمهن مهاجرات إيطاليات, كن يأتين من جنوب إيطاليا, كن يجدن ما يعتقدنه حباً, كن يأملن في حياة أفضل و كن ينتهين على الأرصفة, غالباً مشبعات بالضرب أو مطاردات من الشرطة الذين كانوا يمسكن بهن كحيوانات في حملات عنيفة بقدر ما هي عديمة الفائدة.
مع ذلك ... كن لا يتقبلن الفكرة في أن يحضر لهن القهوة شخص أسود.
أنا كنت لا أكترث كثيراً للأمر, كنت أعي أن الجهل كان يدفعهن لأن يتصرفن بتلك الطريقة.
كنت أملك عالمي من العواطف, أولادي في إثيوبيا كانوا قد تعلموا القراءة و الكتابة بفضل النقود التي واظبت على إرسالها لهم لفترة طويلة و كانوا يكتبون لي من فترة لأخرى. بينما أولادي الإيطاليين كانوا ينشأؤون أصحاء و جميلين, زوجتي كانت تحبني و كانت تملك عملاً جيداً. أنا كنت أملك حبي الثاني الكبير كل يوم معي, نعم, أعتقد أنني أستطيع قوله اليوم, بعد وقت طويل, كنت أحب تلك الفتاة التي رأيتها تكبر تقريباً, كنت أحبها كصديق, كأخ و لكنت أحببتها كعشيقة أيضاً, مرة واحدة فقط سرقت شيئاً من ذلك البيت و كان زوجاً من السراويل السوداء التي تعود للآنسة.
كم مرة انتابني الندم, لو أنها انتبهت للأمر, لكنت أفسدت ذلك الانسجام اليومي الرائع.
و كنت قد مارست أحياناً العادة السرية و أنا أفكر بها و أحسست بالغيرة عندما رأيت أحد الرجال يخرج من غرفتها, ولكنني بكيت عنها عندما أظهر ذلك الرجل أنه لا يستحق حبها. أعتقد أنها انتبهت للسراويل, كانت تحتفظ بهم في خزانتي, مخبئين وراء بذة العمل. في احد الأيام إختفوا تماماً. أعتقد أنها كانت طريقتها لتفهمني بأنها كانت قد انتبهت, ولكنها لم تقل لي شيئاً أبداً, كان واضحاً أنها تقدرني بقدر ما كنت أقدرها.
أما بشأن المومسات الإيطاليات, أتساءل أين انتهين, بما أنه لا يوجد الآن في الجوار سوى أجنبيات و مدمنات فقط. هل تمكن من "الانسحاب" كما كن يأملن؟ أنا اشك في ذلك, ولكن اليوم العالم هو أقل نظافة من الماضي.
مرض السيدة دام خمسة أشهر مضنية. الآنسة كانت يائسة سواء بسبب صحة أمها و سواء بسبب النقود التي كان يبدو و كأنها لا تكفي أبداً. كانت قد اضطرت لترك الدراسة مجدداً و أصبحت ظلاً لنفسها.
و زاد الطين بلّة الزيارات الغريبة لرجال التحري, فهمت أنهم من الشرطة لأنها كانت تخاطبهم مشيرة إلى رتبهم. تلك الزيارات كانت تربك الآنسة و تقلقها دائماً. اليوم الذي كان يلي زيارتهم, كنت لا أذهب إلى البنك.
في صباح يوم اثنين, أحد ما تبعني لغاية البنك, اعتدى علي و سرقني, رغم ذلك, كنت سعيداً لأنني تنازلت لهم عن راتبي فقط و ليس عن غلّة الأسبوع.
لم تكن اللكمات ما شغل بالي, ولكن إدراكي بأننا لم نعد آمنين. الآنسة أرادت أن تترك لي نصف المبلغ الذي أنقذته, ولكن أنا لم أقبل بذلك. في ذلك الشهر, رضيت بنصف راتب و الآنسة تداركت الأمر بمنحي بخشيشاً أكثر بكثير من المعتاد.
عملياً, كانت تطلبه من كل زبون. لم يكن سهلاً بالنسبة لها, كانت عزيزة النفس و لم تكن تحب أن تطلب, ولكن ذلك الشهر تركت جانباً كرامتها.
الشيء الذي يدعو إلى الفضول من تلك الحقبة, كان ذلك الخليط الغريب من الزبائن. إذ منذ أن بقيت الآنسة لوحدها, الصالون بدأ يمتلأ بأشخاص من الجنس المذكر من كل الطبقات الاجتماعية المختلفة, قضاة, خوارنة و شرطة كانوا يتقاسمون الصالون مع لصوص و مجرمين. كانوا لا يتقاسمون الغرف مع عشيقات أو مومسات, بل كانوا يبقون لساعات و ساعات يثرثرون معها.
الصالون تحول إلى ملتقى اعتيادي لأناس مختلفين, حيث كانوا يتبادلون الآراء و يطلبون الإصغاء إلى الموسيقى و هم يثرثرون و يتناولون الشراب. سيل من الرجال الوحيدين الذين كانوا يتناوبون دون توقف, لغاية ما اقترح عليها أحد القضاة أن تجعلهم يدفعون رسم الدخول, أولاً لانتقاء الزبائن و ثانياً لمجابهة المصاريف الزائدة لتلك الحقبة. الآنسة كانت قد وظفت موسيقياً مفلساً, و ذاك الذي كان يبدو فندقاً بالساعات, تحول إلى ناد خاص, بدون رخصة و بدون اسم, حيث كان القليلين يتمكنون من دخوله.
كانوا هم أنفسهم من ثبت أسعار المشروبات لكي يتخلصوا من الزبائن غير المرغوب بهم.
الآنسة وجدت نفسها تدير شيئاً لم تكن تعرف حتى هي كيف تسميه, ولكن وجودها كان عاملاً رئيسياً, المرأة الوحيدة بين بحر من الرجال.
كان كل واحد منهم مستعد ليبتكر أي شيء من أجل جلبها إلى السرير, ولكن لا أحد منهم كان يجرأ على تجاوز بعض الإيحاءات المبطنة التي كانت هي تحورها ببراعة كبيرة.
المال كان ينهمر بوفرة, الغرف كانت تؤجر بالساعة, و في نفس الوقت, أصوات الدخل الكبير للآنسة بدأت تسمع في الأرجاء.
الآنسة كانت قد دفعت أجرة عملية أمها و كانت قد نقلتها إلى مشفى مريح و مكلف للمرضى الميئوس منهم: للأسف, السيدة لم تعد لنفسها بعد العملية الجراحية و لم تعد تنفع لا لنفسها و لا للغير.
أنا كنت أرقب انحسار شباب تلك المرأة الوحيدة و المتعبة, التي يستغلها الناس الذين يسمحون لها بدفع علاج أمها. كانت مستغلة من الشرطة الذين كانوا يتغاضون النظر سواء بالنسبة لأزواج العشاق و سواء لعدم وجود رخصة لتقديم المشروبات الكحولية, و كانت أسيرة أم مقعدة حيث كانت لا تمنحها لحظة من الراحة. كنت أشعر أنني صديقها الوحيد و كان هذا على ما يبدو بالضبط.
لم تتأخر كثيراً طلبات الابتزاز من أطراف أخرى, لحسن الحظ المجرمين لم يكونوا شرسين مثل أيامنا هذه, لأنني أعرف, رغم أنني كنت أرتجف من الخوف, أنني لم أنصاع لابتزازهم. أذكر في أحد الأيام, بعيون تتوهج من الغضب, أنني كنت قد أجبت على تهديداتهم:"لا أملك ما أفقده سوى أمي و عملي, إذا ما لمستموني, الواحد أو الأخر, سأتصرف مثلكم و لن أتردد في إطلاق النار إذا ما اقتضى الأمر". الخدعة انطلت عليهم, بفضل مشيئة الرب أو بفضل شيء آخر, والآنسة استطاعت أن تتفادى دفع الخوّة إليهم. و بفضل المعرفة التي كونتها في نفس صالونها, رويداً رويداً استطاعت أن تتملص أيضاً من الخوّة المدفوعة للشرطة و لرجال المالية.
أزواج العشاق الذين كانوا يترددون على الفندق كانوا يتناقصون باستمرار, بعد أن استدرجتهم المنافسة.
أنا كنت دائماً من يفعل كل شيء في النهار و هي فاتنة الليل, عذراء (1) معبد, أين الرجال لا يبحثون عن الجنس, ولكن عن الأنس و الوئام.
فقط من كان يشكل طرفاً من تلك البيئة الغريبة يعرف الحقيقة, بينما في نظر الآخرين, كان ذاك مكاناً للضياع.
في ذلك الوقت, حزت على ترقيتي الأخيرة, حيث سمح لي بتحضير القهوة, غسل الكؤوس و, أحياناً, شرب الشمبانيا بصحبتهم. كنت قد استغنيت عن بذلة العمل و بدأت أقدم الشراب للزبائن, ولكن في أيام استراحة زميلي في العمل فقط. من جهة أخرى, كنت لا أكسب بخشيشاً كثيراً, لأن "أصدقاءها" لم يكن يستلطفوني كثيراً.
في يوم غريب, الآنسة وقعت في الحب و هذا الأمر أدهش الجميع. كان يجب أن تبقى هناك لكي تبتسم, تثرثر, تغني أو تلعب الورق معهم, لم يكن ممكناً أن تحب, أن تملك رجلاً.
العذراء كان يجب أن تبقى هكذا!
أنا أيضاً تعذبت كثيراً, برؤيتها هكذا, مختلفة و سعيدة.
الأخ فاز على المحب, تمنيت أن يكون الشخص المناسب, رغم أنني لم أستلطفه أبداً.
هي أحست أنها أصبحت حرة. لم تعد مجبرة على دفع المصاريف المكلفة للمشفى, لم تعد تملك ديوناً, لذلك قررت أن تبيع الفندق.
و بما أن الأرباح كانت قد تجاوزت الخط الأحمر, كان الثمن المدفوع ضئيلاً.
الآنسة كانت تريد أن تعيش فرصتها الوحيدة و كانت قد بدأت تهمل المحل. ذلك المكان كان لا يعني شيئاً بدونها.
الناس بدأوا يقللون من ارتيادهم للمكان شيئاً فشيئاً و الرجال بدأوا يشربون كثيراً. أحدهم ابتدأ شجار بلا سبب, حضرت على إثرها الشرطة وألقوا القبض على الآنسة, و للغرابة, التهمة كانت تشجيع الدعارة.
أنا لا افقه كثيراً في القانون, ولكن لا أعتقد بأن الآنسة ربما شجعت أحد ما, لم تكن حتى تملك الوقت لتفعله, ثم, الرجال الذين تعرفهم لكانوا قد اتخذوا إحتياطاتهم جيداً قبل أن يظهروا مع إمرأة.
لهذا السبب تم تبرئتها, ولكن هذا الحادث انتزع شدتها في العراك, الحب الكبير كان قد اختفى أمام العقبة الأولى و كذلك الأصدقاء الحميمين.
الأرباح كانت لا تكفي لتغطية المصاريف و أزواج العشاق إختفوا منذ أمد. النادي ذاب كما الثلج تحت الشمس, والزبائن القليلين الذين يأتون للنوم, كانوا لا يكفون لدفع رواتبنا, ولكن أخطر ما كان في الأمر,هو عيون الآنسة: كانت دائماً جميلة, ولكن مطفئة. تعذبت كثيراً, عندما قررت أن تبيع و تسافر. كنت أفهم أنها لم تعد تملك خياراً آخراً.
لكانوا دهسوها. كان يجب أن تسافر, لوحدها, بدوني.
الآن أنا أعمل في بار أحد الفنادق بالساعة و أجلب القهوة لمن يمارس الحب ...
(1) كاهنة وظيفتها حراسة النار المقدسة في روما القديمة و هي مرتبطة بالوضع العذري كوضع مقدس. Vestale: nella Roma antica sacerdotessa addetta al culto di Vesta, costude del fuoco sacro e legata allo stato di verginita' come stato sacrale. Vesta: la dea latina del fuoco domestico. : آلهة النار المنزلية عند اللاتينيين.vesta
ترجمة: يوسف وقاص