El Ghibli - rivista online di letteratura della migrazione

عربية / english / español / franais



مأدبة عيد الفصح

من رواية "رجلين بعيون من ألف طيف أخضر"
بقلم: غابرييلاّ غيرماندي

نافذة غرفة نومنا, غرفة النوم الوحيدة في بيتنا الصغير جداً, كانت تطل على الشارع. في مقابلنا, من الجهة الأخرى للشارع, كان يوجد بيت كبير يقال له "مأوى الأولاد". بيت أصفر طويل, مؤلف من طابقين, بأبواب و نوافذ خضر, حيث كان يعيش فيه خليط من الأولاد الأجانب. الإيطاليون كانوا يدعونهم "أولاداًً منحرفين", أي أولاداً يعانون من مشاكل, مع خطورة تحولهم إلى جانحين. لهذا السبب كان قد تمّ حشرهم هناك. ولكن نحن, كنا ندعوهم "أولادنا من البيت الكبير".
كان يتوالى على البيت مشرفين تمّ إختيارهم من المؤسسة المحلية للصحة لمتابعتهم و " توجيه نشاطاتهم".
إثنين من أولاد البيت الكبير, أخوين مغربيين يدعيان يوسف و عبد القادر, كانا يعدّان من قبلنا نحن الأجانب ک"أبناء الحارة". نحن جعلناهما معروفين. لا يوجد بيت لم يدخلوه ليشربوا, ليأكلوا أو ليحثوا الآخرين لإهدائهم بعض النقود لشراء ألبسة من الموضة الرائجة في سوق يوم السبت.
الحي الذي تحتله تقريبا جالية الأجانب, كان يعمّه الهدوء و الوئام حتى العام الماضي, لغاية ما جلبوا إلى بيت "الأولاد" مجموعة من الألبانيين, أربعة ذكور و أربعة إناث. منذ ذلك الوقت كانت قد بدأت الإضطرابات.
الألبانيين و "أولاد الحارة" كانوا يتشاجرون في كل صباح.
و كل صباح, كان المشرفين, و النعاس يدغدغ أعينهم, ينزلون إلى الشارع لينتظروا. بعد قليل من ظهورهم, كانت تصل دورية من الشرطة مع صفارة الإنذار الذي تشق الريح, بعد إنتهاء العراك. كانت تقف بحدة أمام الباب الحديدي الأخضر و يخرج منها شرطيين, بالهراوات و أشياء مماثلة, كانوا يفصلون ما بين الأولاد باللكمات أيضاً.
فصل كهذا حيث بدأ يأخذ مسار المألوف, أشاع الفوضى في الحي كله. لسببين. الأول بسبب القلق الطبيعي نحو "أولاد الحارة". كان قد جُرّب الإيضاح لهم بكل الوسائل و الأساليب أسباب تلك المخاصمات التي كانت تجري عند الفجر, ولكن كل المحاولات, حتى تلك التي بذلها الكبار اللواتي يدعونهن أمهات, كجدتي, لم يدلوا بأية نتيجة إيجابية. بالعكس, كانت الأوضاع قد إزدادت سوءاً. مع كل محاولة كانت تزداد سماكة الرداء الأسود فقط الذي كانوا يغطون به أسباب تلك الخلافات.
السبب الثاني كان يكمن في أن لا أحد كان يريد أن يرى الشرطة في الحي. من لا يشعر بقشعريرة الخوف أمام الشرطة؟ من لا يحس بذلك الخدر الغريب في قدميه و الذي يدفعه إلى الحركة المرحة و المتزايدة التي تأخذه إلى مكان آخر, مكان أبعد ما يمكن من رؤيتهم؟ بصراحة, بصراحة لا متناهية, في مواجهتهم, لا أحد كان يمكن أن يزيل عنك جريمة أخرى, جريمة غير قابلة للزوال, و هي أن تكون أجنبياً, من جنوب العالم.
للأسف, بدلاً من تضمحل في شمس الخريف الفاترة, إزدادت حدّة تلك المشاجرات الصباحية, و أصبحت أمراً يومياً إعتيادياً حيث, في النهاية, إضطررنا لأن نعتاد عليه.
كل صباح, في السابعة بالضبط تقريباً, مع فارق عشرة دقائق فقط, هدوء الحي كان ينتهكه صفارة إنذار دورية الشرطة كسكين يثقب القماش و يقصّه من الرأس إلى الرأس.
الحادث كان يقع بدقة لدرجة أن أهل الحي توقفوا عن إستعمال المنبه. ذهب الشتاء و على أبواب إنكفاء عيد فصحنا, صفارة إنذار دورية الشرطة كانت لا تزال تشكّل منبهاً لأهل الحي. و بنفس الوضع دائماً وصلنا إلى مطلع عيد فصحنا, حيث في ذلك العام, حسب مشيئة الكواكب, كان يتصادف مع عيد الفصح الكاثوليكي.
و بفضل ذلك التصادف المؤاتي بالضبط, الجدة بيريختي إعتبرت يوم الفصح فأل خير يجب أن تستغله, أو بالأحرى, لتمتحن خطيبي الإيطالي.
مثل العادة, في الليلة التي سبقت اليوم الكبير, لا أحد ضبط المنبه.

في الصباح التالي, الجدة بيريختي كانت قد إستيقظت مشبعة بالنوم, و كانت قد فكرت بأن الوقت لا يزال باكراً, لأن الصوت الحاد للمنبه المعتاد لم يكن قد سمع.
الجدة بيريختي إستدارت نحو اليمين لتراقب والدتي, التي كانت تنام معها في السرير المزدوج, ثم نحو اليسار, حيث كان يوجد السرير المفرد الذي كنت أنام عليه أنا, و فيما بعد نهضت و ذهبت لكي تطل من النافذة.
ذاك الذي شاهدته كان غريباً لدرجة أنها أطلقت صرخة من الدهشة:" تعالوا و أنظروا. كفاكم نوماً, تعالوا و أنظروا".
في الشارع, أمام باحة البيت الكبير, كانت تقف السيارة المعهودة للشرطة. باب السائق كان مغلقاً. من النافذة كان يشاهد السائق. الباب الآخر كان مفتوحاً. الشرطي الثاني كان قد نزل و كان يقف أمام شبك سور البيت الكبير. من الجهة الأخرى الفتاة الألبانية, حيث كان الشرطي يداعب وجهها بوردة مررها من بين ثقوب الشبك. الإثنان كانا يتهامسان و يتبادلان النظرات.
كانا يتغازلان.
في الجهة الأخرى المعاكسة من الباحة, , كان يجلس في نسق الأولاد الألبانيين بصحبة يوسف و عبد القادر و هم يسندون ظهورهم على الجدار و مؤخراتهم على الأرض. كانوا يضحكون فيما بينهم و هم يتبادلون نكزات تفاهم.
أعتقد بأن كل أهل الحي, كانت نظراتهم مثبتة في ذلك الإتجاه لكي يراقبوا المشهد. الكل كان مندهشاً أسوة بنا.
الجدة بيريختي أحادت عينيها عن العاشقين لتبحث عن عيني صديقتها, في نافذة المنزل المحاذي للبيت الكبير. صديقتها فعلت نفس الشيء أيضاً.
عيني المرأتين إلتقتا في حوار بالإشارات. الجدة بيريختي رفعت عينيها إلى السماء. كانت تريد أن تقول أن ذلك الحدث السعيد كان واحداً من المعجزات الصغيرة و الكبيرة حيث الرب يعطف على منحها في يوم بعثه. الصديقة وافقتها.
بعدئذ, الجدة بيريختي إلتفتت نحوي و قالت بلهجة محارب:" اليوم الربّ يملك مزاجاً رائقاً. من يعلم إذا لم يكن هنالك شيئاً جيداً لك أيضاً. هيا إذهبي و أجلبي خطيبك الأبيض ذاك و لنرى ...".
"ماذا طبخت؟", سألت و أنا أحاول أن أخفي قلقي.
"ما نفعله عادة في عيد الفصح: دورو ووت, يباغ ووت, ثم مرقد البصل مع بعض قطع الفلفل ﻠﻠ " تيبسي " الذي سنحمّره في الوقت المناسب".
"هل هو حارٌ جداً؟".
"كلا يا إبنتي, ما هو ملائم", أجابت, ولكن أنا لم أصدقها.
كنت متعودة على طبعها في إمتحانها و تشتيتها لخطابي الإيطاليين القلائل الذين إمتلكتهم بسبب الفلفل الحر.
بينما كنت أذهب إلى الحمام ألقيت نظرة على المقلاة حيث كان يوجد البصل المهيأ ﻠﻠ " تيبسي". تملكتني موجة من الغضب.
عادة اﻠ " تيبسي" يحمّر فوق مرقد من البصل مع بعض قطع الفلفل الحار الأخضر, ولكن ذلك الشيء كان بحراً أخضراً و لا يشاهد فيه البصل.
"جدتي!", صرخت.
هي لم تتحرك من الغرفة. ذهبت إليها و أنا ثائرة. " المحتويات المهيأة للتيبسي كلها مكونة من الفلفل الأخضر!".
"إذن", أجابت بهدوء.
"إذن؟ إذن لم يكفِ أنك وضعت منهم بهذا المقدار, إخترت أيضاً ذلك النوع الباكستاني الصغير, الذي لا تستطيعين تناوله حتى أنت".
إلتفتت نحوي بكل ثقلها: "الرجل الذي لا يستطيع أن يتحمل الحار فوق لسانه, لا يستطيع حتى أن يتحمل الطبع المفلفل للنساء الإثيوبيات", قالت. لم أجبها. على كل حال كان اعتراضي غير مجدياً. ذهبت إلى الحمام و أنا متعلقة بفكرة أنه معتاد على الأطعمة الحارة. ألم نتعرف على بعضنا في المطعم الأفريقي؟ و كيدان, صاحب المطعم, ألم يقل لي بأنه كان حبشياً أصيلاً, و أنه يأكل الحار مثلنا و أكثر منا؟ إغتسلت و أنا أفكر بهذا الموضوع, إرتديت ثيابي و أنا أفكر بهذا الموضوع و خرجت صافعة الباب ورائي, منرفزة من مشهد ذلك البحر الأخضر الملتهب الذي يطفوا في المقلاة.
أنا وهو كنا متواعدين في بورتا سان فيليتشه. من هنالك كنا سنذهب إلى وسط المدينة للإلتقاء بطيفور, أويت و تيتي, ثم, بعد أن نقضي الصباح, كنا سنذهب إلى بيتنا, لذلك الإمتحان الرهيب.
عندما وصلت إلى بورتا سان فيليتشه, هو كان ينتظرني على الموقف. نزلت.
"إذن – سألني و هو يعانقني – أهذا هو اليوم الذي سأواجه فيه الإمتحان الرهيب؟". " لا تمزح. أنا قلقة. جدتي مفزعة. لا أعرف كيف سأخرج من هذا الموقف. هل تعرف, لقد جهزت المكونات للتيبسي الأخضر. كله من الفلفل الأخضر".
حاول أن يقنعني و هو يتابع معانقتي: "لا تقلقي, هل تعرفين بأنني تعودت على الحار. ألا ترين بأنني أود أقضمك؟. "كفى, أيها الأبله!", قلت بإبتسامة, كنت أريد أن أضيف شيئاً آخراً, ولكن الباص كان قادماً و هو سحبني من يدي: "إنه الرقم 13, فلنصعد".
في الباص أخذنا موضعاً قريباً من أبواب النزول, بجانب زوج من المسنين.
بعد أمتار قليلة إنتبهت إلى أن المسنيّن كانا يملكان عيوناً براقة كطفلين يكتشفان محيطاً جديداً.
كانا يحاولان أن يتعمقا بنظراتهم في المحلات تحت الرواق.
الرجل, صغير, نحيف و معتبر في لباسه, في لحظة معينة, بقفزة هائجة تقريباً, قال إلى المرأة: "أنظري, لا زال مطعم البيتزا "أموري" موجوداً". وهي, صغيرة مثله, بهالة من الضفائر السماوية و معطفاً أحمراً خفيفاً, ردّت:" حتماً لم يعد يوجد أصحابه القدماء. ربما يديره أحفادهم". "ربما تخلوا عنه ولكن الإسم بقي كما في أيام زمان - قال هو وبعد لحظة من التأمل - من يعرف فيما إذا كانت البيتزا لذيذة كما في الأيام الخوالي. هل تذكرين يا أنّا؟". " نعم, أذكر, كيف بإمكاني أن أنسى. بيتزا صغيرة و لذيذة!". وهو:" أذكر السباق للكأس الأخير من الغرابّا, في الثانية بعد منتصف الليل, عندما كنا نغلق المحل من أجل مساء السبت. و ميمّو, صاحب المطعم, كان يعطينا بعض القطع المثلثة المسخنة من البيتزا, لأن الغرابّا, في تلك الساعة, يمكن أن تثقب المعدة, كان يقول".
"آه! في تلك الأيام كنت لا تزال شاباً. أنا لم أسمح لك قط بأن تشرب في تلك الساعة بعد أن تزوجنا".
الباص تقدم عدة أمتار أخرى في شارع سان فيليتشه المزدحم و المسنّين, أنّا و ..., زوجها, كانا يغوصان في الماضي, كزورق شراعي صغير يختفي و يظهر بين أمواج المحيط.
"ها هو – قال هو فجأة – هنالك كان يوجد مخزني. أي المخزن الذي كنت أشتغل بائعاُ فيه. أفضل مخزن للقفازات, للقبعات و للعكازات في كل بولونيا. آه! يا لتلك الأيام". بعد عدة أمتار, هي صوبت إصبعها لتشير إلى أحد المخازن, في نهاية الشارع تقريباً. "أنظر يا كارلو, يوجد مخزن هندي. أنظر يا لها من ألوان ... كان يوجد هنالك قبلاً محلاً لبيع الخيوط, رمادي, كلون جلد صاحبه".
"لا أذكر" قال الزوج, كارلو.
"كما أقول لك بالضبط. كان محل بيع خيوط".
"أنا واثق من أنك محقة, يا أنّا. أنت كنت خبيرة بمركز البلد. أنا كنت رجل الضواحي".
الباص كان قد وصل إلى إشارة المرور. موقفين آخرين و سننزل في بياتزا ماجّورهْ. خلال كل وقت محادثتهما أنا وهو كنا نبتسم. ،نبتسم لتلك البراءة التي كانا يمنحان بها التأثّر لذكرياتهم عندما كانوا في ريعان شبابهمً.
على إشارة السير, الزوج, كارلو. إلتفت نحونا. عيونه وقعت على أيدينا المتشابكة, على التضاد بين البشرة السمراء و البيضاء.
" يا أولادي الأعزاء - علّق – يكفي أن تتحولوا إلى مسنين لتدركوا بأن العالم قد تغير. عندما كنت شاباً’ كان بإمكانك أن تنتقي ما بين إمرأة من المدينة و أخري من الريف. أو على الأكثر, كما في حالتي, كنت تستطيع أن تكون رجلاً من الضاحية و تحب إمرأة من مركز المدينة. بينما أنتم الآن تستطيعون أن تختاروا من عوالم مختلفة".
وصلنا إلى موقفنا. نزلنا لنلتقي طيفور, أويت و تيتي. قضينا معاً عدة ساعات في مقهى أسمرة, و فيما بعد إستقلينا الباص إلى حي كورتيشيلاّ.

الجزء الأخيرمن شارع كورتيشيلا, حيث يتكاثف حضورنا نحن الأجانب, كانت حياً يشبه مدينة مدمرة جزئياً. أبنية حيث تعمّق الإحساس المتدني من وضعها القائم تطلّ على شارع ذو أسفلت مليء بالحفر. نحن كنا نعيش في تلك الأبنية المتهالكة مثل الإقامات التي تمنح لنا. , كنا ندفع مبالغ طائلة من أجل سكنها. في إحدى المرات, كانت جدتي قد حاولت أن تلفت إنتباه البلدية بأنها بينما كانت تزيل شبكة عنكبوت بالمكنسة من سقف الحمام, شاهدت بقعة من العفونة و حاولت أن تزيله بعصا المكنسة. ثم بعد برهة, الفلبيني الذي يقطن في الطابق العلوي صرخ:" سيدتي, إسحبي مكنستك من حمامي". العاملون في البلدية إكتفوا بالضحك.
كل الحي كان يرزح تحت وطأة نفس الظروف ولكنه كان ملكاً لشخص مهم, و هذا يوضح كل شيء. بعد بضعة أعوام, في أحد الشقق, في عمق الليل, إنهارت أرضية المطبخ. قاطنيها الإثنين, زوج و زوجة من اللاجئين السياسيين الإيرانيين, تمّ إستضافتهم من قبل شاب صقلي كان يعيش في الحي. تم إفراغ المبنى الذي إنهار بعد بضعة أيام. و ذاك الذي كنا نقطنه نحن إنهار أيضاً بعد فترة من الوقت. ولكن هذه الأمور التي أقصها لكم حدثت بعد ثلاثة أعوام من ذلك الأحد الذي لا ينسى من عيد الفصح و نحن لم نعد نقطن في ذلك الحي.

نزلنا في الموقف الأخير أمام البيت الكبير "للأولاد". هو شدّ على يدي ليشجعني. إبتسمت له بلطف.
عندما دخلنا البيت كانت رائحة الفلفل الحار قوية لدرجة جعلتني أسعل:"جدتي, لا يمكن التنفس هنا!" قلت. هي لم تكترث بي, قدمت نفسها إليه بإبتسامة عابرة فقط.
اﻠ "ميسوب" كان يشمخ في وسط صالة الطعام الصغيرة. كنا سنأكل هناك, حسب التقاليد, الجميع بأيديهم في نفس الطبق.
وصلت أمي, هي أيضاً قدمت نفسها له, و بعدها قامت جدتي بنزع الغطاء عن اﻠ"ميسوب" و من ثمّ تحلقنا حوله. "أوه! لذيذ!" صرخ و هو يستنشق عبق الطعام. هي, المحاربة الشرسة التي شرّدت كل خطّابي الإيطاليين الذين سبقوه, رفعت جفناً لتطلق نظرة شكّ نحوه. هو, دون أن يعطي إنتباهاً لنظرتها, إنتزع قطعة من خبز "الإنجر" (1) و ألقى بها في المرق. أدار قطعة الخبز حول قطعة اللحم مشكلاًّ مخروطاً حقيقياً, لقمة فحل, مع القاعدة بين الأصابع و الرأس يلمس راحة الكف, ثم ألقى به في فمه. دون أن يتفوه بكلمة, و بدون أن ينفخ, و حتى دون أن يطلب شيئاً للشرب, تابع طعامه, و هو ينتزع قطعاً من خبز" الإنجر" ليصنع منها لقماً كبيرة تليق بالذكور. أكل من أنواع مختلفة من المرق, متبعاً الإرشادات التي كنت قد لقنته إياها: كُل دائماً من الطعام الموجود أمامك دون أن تطيل يدك أبداً إلى مناطق الآخرين. في مطعم أفريقيا كان لم يتعلم بعد أن يأكل من طبق مشترك.

بعد تناول أنواع المرق الأحمر, الجدة بيريختي, التي لم تكن مقتنعة بعد من بيان مقاومته, تجاوزت لحم اﻠ "تيبسي" في الفلفل الأخضر و قدمته للمائدة. لا أحد منا الثلاثة إستطاع أن يتجاوز اللقم الأولى. كان حريقاً جهنمياً في الفم. بينما هو تابع الأكل. الآن الجدة بيريختي كانت تنظر إليه بكلى عينيها و نظرتها كانت قد تغيرت. من الشك كانت قد تحولت إلى الذهول. إنتهت الوجبة, نهضت لتصب له مِغرفَة من المقلاة. أنا تذمرت:"جدتي, كفى!". هو أخرسني بعينيه ثم قال للجدة بيريختي:"شكراً يا سيدتي. إنه لذيذ حقاً".
"أحسنت يا بني", أجابت هي. كانت قد بدأت تستسلم.
بعد إنتهاء الوجبة الثانية تلك, الجدة بيريختي بدأت تهتم به. سألته عن عائلته, عن عمله و عن حياته.

بعد طعام الغذاء, إنتقلنا إلى طقوس تحضير القهوة. الجدة بيريختي جهزت النار, حمّصت القهوة, وضعت القهوة المطحونة في الوعاء الفخاري و بدأت تنتظر.
عندما أصبحت القهوة جاهزة سكبته في فناجين دون مقابض. ملأتهم حتى الحواف تقريباً, تاركة ما بين الحافة و السائل الغامق مسافة أفقية بحجم حبة الأرز. تناولت فنجاناً, دون طبق يسند عليه, و قدّمته له.
هو, أمسك بالفنجان و أطبق على الحافة بين أصبعه الوسطى و الخنصر, تاركاً البنْصَر مرتفعاً قليلاً, بحركة أنيقة تماماً, و بدأ يرتشف القهوة الحارّة.
لا أحد من خطابي الإيطاليين السابقين تحمّل حرارة الفنجان على جلد الأصبع و كان قد طلب طبقاً يسنده عليه. ولكن هو لا شيء. كان يطبق على ذلك الفنجان كحبشي حقيقي.
بعد الفنجان الثالث الجدة بيريختي رمقته بنظرة موشّحة بالإنفعال:" أنت تملك عيوناً ذات ألف طيف أخضر – قالت له – تماماً مثل والد "آلِم", أي أبي.
كان الأمر قد إنتهى. هو كان قد تجاوز الإمتحان.
كبرهان للمباركة التامة و الموافقة, قالت له الجدة بيريختي أنه, في الظهيرة, إذا كان يرغب في ذلك, يستطيع أن يستريح, برفقتي, على سريرها.
هو قبل العرض السخي.

بينما أنا و هو كنا نحاول النوم في الغرفة الوحيدة من بيتنا, كنت أسمع أمي و جدتي و هنّ تتحادثن في الصالة.
الكلمات كانت تدور حول ذلك الحديث القديم: مراسيم اﻠ "تيسكار" التي لم تقام أبداً لأبي.
" روحه – كانت تقول الجدة بيريختي – لا زالت تنتظر اﻠ "تيسكار". لا أحد أكل في الوليمة على شرفه بعد مضي ستة أشهر على رحيله. لم يُدع أحد من الشحاذين ليبارك روح زوجك الراحل. وهل تعرفين, أنه دون اﻠ "تيسكار" الموتى هم مثل مركبات بلا وقود. لا يمتلكون القوة للوصول إلى مثواهم الأخير, لأنهم لا يملكون أية مباركة من الفقراء الذين أكلوا بفضلهم".
"و أنت, هل تعرفين لماذا لم نقم له التيسكار: لأنه كان أبيضاً".
"هذا ما تقولينه أنت. أنا لم أقله أبداً أو فكرت به. هو كان يملك بشرة بيضاء, ولكنه كان واحداً منا. واحداً من عرقنا. كوباليتٌ حقيقي, من أولئك النادرين".
"حسن, ربما أنت محقة. كان يجب أن نقيم له التيسكار. أن نذبح له ثوراً, أن نطبخ, أن نحضّر اﻠ "تيلا" و "التيغ", أن نعزم كل فقراء أديس أبابا, أو من ديبره ليبانوس, تقديم الطعام لهم ..., ولكننا لم نفعل ذلك و إذن فلنغلق هذا الموضوع. الآن نحن موجودين في إيطاليا, إنتهى الحديث".
"أنت بلا مشاعر. ألا تفهمين بأننا يجب أن نفعل شيئاً ما. برأيك لماذا إبنتك لا تتمكن من إطالة عمر أية خطبة أكثر من ستة أشهر؟ إنها بالضبط نفس مدة التيسكار؟ إنها روح أباها الملتصقة بها و تريد أن تكون في الذاكرة ...!".
"ولكن ماذا تقولين؟ أنت التي كنت السبب في هروب ثلاثة منهم على الأقل".
"أولئك؟ أتمنى بأنك لا تعنين بأن أولئك كانوا ملائمين لها. كانوا بيضاً, من أولئك الذين يملكون المرساة في أرجلهم و لا يستطيعون أن يذهبوا أبعد من فناء منازلهم. إبنتك بحاجة إلى رجل من الكوباليت".
"ولكن ماذا تريدينني أن أفعل؟".
"يكفي أن تفتحي قلبك, و الجواب لهذا السؤال سيبزغ تلقائياً. يا إبنتي, لا يمكن المخاطرة في أن يهرب هذا الخطيب أيضاً. ولكن هل رأيتيه؟ من كل أولئك الذين إمتلكتهم أقول لك بأن هذا هو المناسب, بالأحرى المناسب جداً لها. فكري, يملك عيوناً من ألف طيف اخضر, كزوجك, و بالإضافة إلى ذلك يدرس الريح. تصوري, الريح. سترين, إنّ شخصاً يدرس الريح يعرف ماذا يعني أن تكون كوباليت".
ثم سمعت خبطة باب البيت. بقية الحديث توالى في الخارج, حيث لا يمكن أن يصل إلى سمعي.
في ذلك المساء, بعدما كان قد ذهب, متحاشياً الدعوة لقضاء الليلة عندنا, نحن الثلاثة إنسحبنا إلى الغرفة.
إنسللت تحت الغطاء و أغمضت عينيّ لأصغي إلى الأصوات الإعتيادية لأيام الأعياد, عندما كانت الجدة بيريختي تنزع الثوب الأبيض و هي تجري السحاب الطويل الخلفي, ثم الحَلق و السلاسل, و تودعهم فوق الكومودينة, بصخب باتر, مثل خبطة على الباب.
إنتظرت بعيون مغمضة لبضعة دقائق, ثم عندما لم أعد أسمع أي ضجيج, فتحتهما. الجدة بيريختي كانت تحدق بي. "ما الخطب, يا جدتي؟". "آلِم, أعتقد بأنك يجب أن تسافري قريباً" قالت هي.

أنا إبنة ريح غجرية. كل عائلتي تنتمي إلى سلالة غجرية, "الكوباليت". عندما كنت صغيرة, مثل صلاة طويلة و مملّة, إضطررت أن أحفظ أسماء أجدادي, عكسياً لغاية الأوائل الذين أسسوا السلالة: اليمني إيوان و التيغري جيبره سيلاسي.
كانت غريبة سلالتنا. لكي تشكل طرفاً منها يجب أن تمتلك الروح الغجرية. لهذا السبب كان قد تمّ قبول والدي لغاية ما فقد لقب "ابيض الكوباليت" ليستعيض عنه ﺑ "الكوباليت القادم من وراء البحار".
في سلالتنا, الإنتقال من طرف إلى طرف آخر من البلد هو أمر إعتيادي, إعتيادي جداً. أن تقطع مشياً على الأقدام عشرات, بل مئات الكيلومترات لكي تشترك في مناسبة تعميد أو حفلة زفاف, و حتى ببساطة, أن تذهب لتزور أحد الأقرباء الذي لا يُشاهد منذ وقت طويل, و أن تتوقف لدى الأقرباء في القرى التي تصادفها أثناء الطريق, كل هذا لا يعني لنا أي شيء إستثنائي. التنقل بالنسبة لنا هو أمر طبيعي, و التنقل هنا لا يعني السفر, السفر هو شيء آخر.
في سلالتنا التنقل هو علاج. عندما شخص ما يتابع تكرار نفس الأخطاء, أو يصادف دائماً نفس القدر, رغم أنه حاول تغيير الطريق, يأتون به إلى المسنين و هم يشيرون له برحلة. عودة إلى بعض أماكن الماضي, الولوج في أحاسيس قديمة و التمكن من إيجاد ذاك الذي أمسك بالروح مثل خُطّاف ليمنعه من متابعة طريقه.
عندما لفظت الجدة بيريختي تلك الكلمات القريبة من النبوءة:" آلِم, يجب أن تسافري", أحسست بقشعريرة من الجزع تسري في ظهري. كنت أعرف ماذا كانت تعني: كنت سأسافر قريباً إلى إثيوبيا.

(1) الإنجر هو أحد أنواع الخبز الإثيوبي, يُقدّم فوقه المرق, أو يستخدم كقطع مناسبة لغرف المرق نفسه.

غابرييلا غيرماندي, من مواليد أديس أبابا عام 1965, إنتقلت إلى إيطاليا في عام 1979. تقطن في بولونيا, مسقط رأس والدها, منذ أعوام طويلة. في عام 1999 فازت بالجائزة الأولى في مسابقة إكس & ترا التي كانت ترعاها دار فارا للنشر, و في عام 2001 نالت المرتبة الثالثة في نفس المسابقة. نشرت قصصاً في إصدارات و مجلات أخرى. و هي المنسقّة و المبادرة لإنشاء مشروع " القبلي ", المجلة الأدبية الالكترونية.

ترجمة: يوسف وقاص

Home | Archivio | Cerca

Internazionale

 

Archivio

Anno 3, Numero 15
March 2007

 

 

©2003-2014 El-Ghibli.org
Chi siamo | Contatti | Archivio | Notizie | Links