El Ghibli - rivista online di letteratura della migrazione

عربية / english / español / franais



من الراب هيب هوب (الخطيئة الثامنة)

بقلم: كوسّي كوملا إيبري

"عندئذ قال الثعبان للمرأة: في الحقيقة, أنتم لن تموتون! بالعكس, الرب يعرف بأنه في اليوم الذي ستأكلونها ستبصرون و تصبحون مثل الربّ, مدركين للخير و للشرّ " (الأصول 3و4-5)

إستيقاظي منذ ثلاثين يوماً أصبح دائماً أكثر مرارة.
ألاحظ بطرف عيني, و أنا مستسلم, غياب بصمات جسد دانييلا فوق الملاءات التي أتغطى بها. أنزل من السرير لأذهب و أتبوّل. شاشة الكريستال المائع فوق الجدار تذكّرني: "10/1/2054 موعد مع البروفيسور دوللي, الساعة 9 ". جدران الحمّام تعكس صورة رجل ذو بشرة سوداء, حيث لم يعد في لياقته الكاملة, مع شعر يميل كثيراً إلى الرمادي و يحيط كالسياج بداية الصلع. ألاحظ أيضاً أثناء مروري ذقن مضاعف و تجاعيد حول العينين. أتحاشى النظر إلى كرشي ذو الطبقات الثلاثة من الشحوم الذي أحمله كإطار إنقاذ, بدايات مريول أصرّ على تسميته " مقابض فينوس". أنظر إلى نفسي و في داخلي موجة من الحزن: في النهاية كنت مغرماً بهذا الجسد. لوقت ما كان يثير إعجاب دانييلا أيضاً. لا أراها منذ شهر و أشعر بفقدانها بشكل هائل.
كمن يبعد ذبابة تبعث على الضيق, ترتفع يدي اليمنى آلياً على وجهي لطرد بعض الذكريات. يجب أن أقّر رغماً عني بأنني لا زلت أحبها. أرتدي ملابسي بلا تسرع. موعدي مع البروفيسور دوللي بعد ساعة تقريباً. من أجل حب داني أنا مستعد لكل شيء. أجد الوقت لأبتلع قطعتين من العلكة بطعم الكرواسان بالشوكولاته, ثم أعدو نحو المصعد البانورامي لأنزل بأعين مغمضّة من الطابق الواحد و العشرين. عانيت دائماً من الدُوار (رجلي ترتجفان حتى على السلم المتحرك). أرفع عيني لأركّز تفكيري في حيز السماء الرمادية التي تغطي المساحة ما بين ناطحتي السحاب. هواء المدينة الفاسد, الحمضي و الكثيف يدهم المصعد حالما يطأ الأرض. قبل أن ألقي بنفسي في الزحام السريع, أقحم بسرعة المصافي في خياشيمي.
أصل إلى عيادة البروفيسور دوللي الذي يستقبلني بالعبارة التالية:
"إذن, أيها الحيوان القارض العجوز, هل قررت في النهاية؟".
أجيب بالصمت. هو يعتبر صمتي علامة موافقة.
أتبعه و أنا أضع نوتة "بي" خفيفة على أفكاري المعششة فوق السلم الموسيقي لدماغي لكي لا اسمع سوى دقات قلبي. هذا القلب الذي يبدأ عزف خليط من " الراب- هيب- هوب" في كل المرات التي كنت أحتضن فيها دانييلا أو أفكّر بها...
شخص ما ينزع ملابسي في غرفة العمليات. اشعر بالحرّ. الممرضة تملك شعراً أشقراً تتدلى خصلاته من القبعة الزرقاء, ليؤطّر وجهاً فاتناً بعيون بنية حيث تحملقان بي بلا رحمة. أقرأ – ليس بدون تحفظ – إنحلالي الجسدي في نظراتها اللامبالية, الساخرة التي, في آخر المطاف, لا يمكن أن تمنعها من التحديق, بلا شك بسبب الجاذبية الأرضية, نحو الأسفل. حتماً, كانت تقارن عضوي التناسلي بذلك الذي يحتفظ به عشيقها في سرواله الداخلي و يعرضه فقط تحت الملاءات في مخبأهم السري. كبريائي كفحل أفريقي ينقلب عليّ و يشعل بعض الألعاب النارية ملاحظاً, في تلك البرهة القليلة و الغير المنظورة في إتساع جفونها, تأكيد تلك الأسطورة التي تتناقل عبر القرون في المخيلة الجماعية للبيض. دانييلا كانت قد فقدت هذا الوهم منذ زمن طويل: الزائدة اللحمية التي تشبه الخرطوم لم يعد ينتصب تلقائياً و مراراً كما كنت أرغب تلك الوضعية التي تمنحك النشوة و السعادة.
" آه لآثار السنين التي لا يمكن تفاديها!"
أنظر إلى نفسي و فجأة أدرك بأنني منهار و خَرِفٌ حقاً. هذه الفكرة لا تملأ نفسي بالبهجة و الإتزان كما في السابق.
في الحقيقة, تخيلت دائماً الكهولة كغاية, كفتح. كنت أودّ أنا أيضاً أن أتحول في موتي إلى: "مكتبة تحترق". حتماً كان إختياري سيئاً للمكان الذي سأقضي فيه كهولتي و نحبي ... و الأسوأ أيضاً أين سألد من جديد. قضيت طفولتي تحت ثقل مواعين الماء و حزم الحطب, برقبة ملتوية و أقدام عارية فوق الرمال الحارقة, علبة نستله ككرة من الجلد لأن بابا نويل كان حتماً قد فقد بوصلته بينما يعبر البحر الأبيض المتوسط و عربته التي تجرها حيوانات الرنّة قد توقفت بين كثبان التينيريه. أو ببساطة أكثر, أثناء تحليقه فوق سهول السافانا القاحلة, الكهل ذو اللحية البيضاء كان قد رجع إلى الوراء لأنه لم يرى في الأفق أية مداخن. حيواناته, التي يسيل منها العرق والتي تفوح منها رائحة قذرة, و المنهكة من الحرّ و من رطوبة المكان, كانت قد بدأت إضراباً غير محدداً تاركين بابا نويل كأقلية على طاولة المفاوضات النقابية, مطالبهم كانت تضع على المحك الإستقرار المالي العالمي, مؤدية إلى إنهيار الدخل الوطني من شيللا إلى كاريدي. بكلمات قليلة, لم نر أبدًا زغبه الأبيض يطلّ في أفق رغباتنا الهشّة. على كل حال, كنا لا نستطيع حتى أن نعلّق أحلامنا المحشوّة بالهدايا لا إلى المدخنة و لا إلى صنوبرات الغابة الجميلة لسبب بسيط و هو أننا لا نملك لا هذه و لا تلك. عندنا, بلد أحفاد حام, كنا فقط شجرة الباوباب العظيمة التي تدور حولها الحكايات, كبيرة بحجم الحكمة, حيث رجل واحد لا يستطيع أن يحتضن جذعها. تحت هذه الشجرة, ليلاً و نهاراً, كبارنا في السنّ, أمناء تلك الحكمة, تتصاعد كلماتهم التي تعبق بالقدم, مصبوغة بلون جوز الكولا. أحلامنا الطفولية ( في أن نطير فوق العصفور الحديدي لكي نذهب إلى مملكة التنابلة) كانت تبقى معلقة على أغصان الفيلاو حيث تبرعم دون أن تتفتح أبداً مثل أزهار البوغانفيلييه القانية التي تسوّر حديقة منزلنا. نحن كنّا نكتفي بالركض خلف عوادم سيارات الستروين د.س. (ديزل) التي كانت تكحّ و التي كنّا قد أطلقنا عليها تجاوزاً إسم "الطائرات الأرضية".
أكثر من مرة, كنت قد تناقشت مع دانييلا – بيضاءتي و نصفي الحلو غير الملون – على أقل ضجيج للسلسال الذي كان بربطنا خلال السنوات الثمانية من الحياة المشتركة التي لم نفكّر خلالها أبداً في إمكانية إتخاذ قرار الزواج.
صوتي كان يميل إلى الحدّة و التجريح:
"لا تستطيعين أن تفهميني لأنك عشت دائماً في الرفاهية!".
"ها نحن ثانية مع القصة المملّة للطفل الأسود الفقير!".
"لا تسخري مني ... أيتها الطفلة المخملية!".
هي كانت تلجأ إلى ذلك الصمت الذي يعطي الإنطباع كمن يتصنع رفع العلم الأبيض على حافة الشفتين لكي تتفادى التورط في أحاديثي التي ليس لها بداية و لا نهاية. نقاش حقيقي على طريقة السحن الشاحبة. إختلاطي بالبيض جعلني أتعلّم و أتقن مثلهم " فن الفوز دون أن تكون بالضرورة محقاًّ ".
كنت متيقنّاً من الإصرار بنبرة إستياء و نقمة:
"إنه أمر لا أخلاقي! بابا نويل يجلب هدايا لأطفال متخمين بالنزوات!".
كانت تتصنّع بأنها إستسلمت و هي تغفو:
"أنت محق يا حبيبي! الحياة لم تكن عادلة معك. ولكن هل تعرف ما هي المشكلة الحقيقية يا عزيزي؟".
"كلا ... نوّريني!".
"المشكلة الحقيقة أنك لا زلت تعتقد بوجود بابا نويل في مثل هذه السنّ!".
الرقبة المحنية, كانت ترافق الجملة مع ضحكتها العميقة التي تشيع الرعب تحت جلدي و توقظ هرموناتي.
هي كانت تدرك ذلك و كانت تتقدم لتحتضنني. كنت أتصنّع المقاومة و نحن نضحك سوية. كنت أحاول أن أنطق بكلمة أخرى دون أن يحالفني الحظ: هي كانت تعرف كيف تصل إلى نقطة ضعفي. نهمة, فمها يلتهم فمي و أذناي تغرقان في سلسلة من "أنا أحبك" تفوهت بوفرة. أستسلم و أيدينا تعثر في الظلام على الأخاديد الإعتيادية من مرتفعاتنا وودياننا, آبارنا و ينابيعنا حيث كنا نعتاد أن نرتشف الحنان لكي نروي ظمأنا من العاطفة. لاحقاً, بينما كنت أنشّف العرق الذي يتلألأ على صدغي, و بينما هي تخنق في منديل سائلي المنوي الملتحي, رجعت إلى الموضوع بطريقة غير مباشرة.
"إخترت مكاناً سيئاً لكي ألد و مكاناً أسوأ لكي أمضي شيخوختي!".
"أنا أخشى من الشيخوخة فقط!".
"لماذا؟ كل موسم و له فواكهه. الشيخوخة جميلة!".
"جميلة إلى الجحيم! بعد الثلاثون, كل يوم تنهض تشعر فيه بألم في مكان ما, الجلد يصبح مترهلاً, الثديين يهزلان, السيلوليت يحولان الأرداف إلى قشر برتقال, تتسوّس الأسنان و تتساقط. ينقطع نفسك بعد أقل جهد و المفاصل تزقزق ... يا للرعب! بالإضافة إلى ذلك, الكهول تفوح منهم رائحة البول و العرق النتن! أنا لا أريد أن أشيخ!".
"يا صغيرتي, أنت ثمرة ثقافتك فقط!".
" ياللروعة! ها قد تكلم العجوز الأفريقي الحكيم!".
"نعم, مجتمعكم ...".
"و هو أيضاً مجتمعك منذ نصف قرن!".
"حضارتكم ترى الرجل كصورة مرادفة للآلة فقط. الأطباء يصنفون أجسامنا مثل قطع تبديل السيارات. طبيب الأمراض الداخلية يهتم بكبدي, طبيب القلبية بقلبي ...".
"و طبيب الأمراض المعوية بأحشائك".
"بالضبط! و إذا توقفت آلة من الجسد عن العمل, ينزعون مسماراً لولبياً من هنا, و يشدون برغياً هناك. رويداً رويداً الجسد – الآلة إنتهى بفقدان غموضه مع تطور الألياف البصرية: يمكن إدخالهم في كل مكان مع الإيكوغرافيا, التصوير الطبقي المحوري, التنظير الرنيني و ما يتبع من تلك الأمور الشيطانية".
"إنه التقدم يا عجوزي!".
"لا يهمني شيئاً من هذا التقدم إذا لم يعاملني كقطعة واحدة. أنا لست جسداً فقط!".
"ماذا إذن؟".
"اللعنة, لا أعرف: أملك أيضا نفساً, مشاعراً, و ربما روحاً ...".
"يا عزيزي, أين تعيش أنت؟ لقد تجاوزنا تلك المرحلة منذ قرن. من الجسد – الآلة, انتقلنا إلى الجسد – الكومبيوتر كي نخلق الرجل الآلي بكل الأشكال المحتملة و التي يمكن تصورها من قطع التبديل. إذا كنت تملك الوَرِك أوْرَباً يرتبونه لك بواسطة آلة مساعدة. إذا كان قلبك لم يعد يضخّ يبدّلونه, إذا كان عضوك التناسلي يعاني من الجاذبية الأرضية, يجعلونه ينتصب ...".
"هذا صحيح".
"و لا ينتهي الأمر هنا! لا يمكن إيقاف التقدم! الرجل يمكن أن يتحول إلى كائن أبدي!".
"نعم, الرجل الذي يريد أن يأخذ مكان خالقه! كلا! كلا يا داني! أنا أريد أن أشيخ!".
"أنا لا أريد ذلك! حالما أشعر بأنني تقدمت في السن سأذهب إلى الدكتور دوللي لكي ينسخني!".
"لكي يفعل ماذا؟".
"لكي ين....س ...خني!".
"ينسخك؟ أنت تمزحين بلا شك؟".
و مع ذلك, القصد لا يمكن أن يكون أوضح من ذلك:
"يا عجوزي, لقد حان الوقت لكي تدعهم ينسخونك!".
كنت ألعن نفسي لأنني إرتبطت بعلاقة مع إمرأة تصغرني بعشرين عاماً. أن تنسخ نفسك! كنت دائماً أصاب بالرعب من فكرة التكرار, من النسخ الصوري للرجل. القانون حول الإستنساخ الإنساني كان قد مرّ عن طريق الإستفتاء دون إعارة إنتباه للسقف منذ أن إبتدعوا أسلوب "حِكْ و صوّت". لترغيب الناس على التصويت, كانوا يقدمون في المخرج لمن صوّت إمكانية الرهان مجاناً حول النتيجة النهائية بحك نظام مؤلف من عمودين و العثور على النسبة المحتملة من "نعم" و "لا". الرابحون كانوا يتقاسمون المبلغ السحري المكون من أربعة مليارات يورو. أثناء الإستفتاء حول الإستنساخ, الإقبال على صناديق الإقتراع تجاوز تقريباً التسعون بالمائة: الجائزة المقدّمة كانت قد إرتفعت إلى ثمانية مليارات لعدم وجود فائزين أثناء الإستفتاء السابق. مؤخراً, النقاش حول هذا الموضوع دفع إلى الساحة الأشخاص الذين كانوا مقتنعين بأن كبرياء و نبل الرجل ربما مرتبطين بكينونته و عدم تكراره. العلوم الطبية كانت قد قطعت خطوات عملاقة منذ التجارب الفاشلة للبروفيسور فييري سينانتينورو. عند هذا الحد, "المنسوخين" كما كانوا يسمونهم, كانوا قد تحولوا إلى موضة و الإستنساخ كان قد تمّ مساندته بقوة من العولمة الإقتصادية التي وجدت فيه علاجاً لكل مشاكل إنخفاض الولادات و التقاعد. بإختصار, مع التكرار, الكهول كانوا يتحولون إلى شبان نشيطين و يعودون بلهفة إلى العمل ليعودوا و يملئوا بإسهاماتهم خزائن صندوق التأمينات الإجتماعية. ولكن, التنافس في حقل العمل كان صفيقاً و كان يهدد دائماً أكثر المجابهة الجيلية بين ال "ق-ج" (القديم-الجديد) و ال "ج-ج" (الجديد-الجديد) الذين كانوا يتابعون تذمرّهم حول البطالة المرنة. الأسلوب الجديد في تكرار نسخ مطابقة من الأشخاص الذي إبتكره البروفيسور دوللي, و رغم أنه لم يكن كاملاً بعد, كان يسمح بإستعادة ذاكرة التجربة التي جرت و يعطي التفوق للقديم-الجديد.
مدعومة من هذه التجربة, داني من جهتها كانت تدافع بقوة الإفتراض الذي يدعي بأن كرامة و قيم الكائن الإنساني غير مرتبطين بوحدة مورثاته ولكن بوحدة تجربته و تاريخه الشخصي الذي حسب رأيها هو أكثر أهمية من الواقع البيولوجي.
لكنت فقدت لغتي اللاتينية و اليونانية في كل هذا لو كنت فقط قد درستهما. بالنسبة لي الإنسان هو كلّيٌ, كبيولوجيا و كتجربة, و الإستنساخ حسب رأي يخرق القوانين الطبيعية. ثقافتي علّمتني أن أتقبل الحياة كهبة, الكهولة كإمتياز و الموت أمر لا مفر منه للعبور إلى الضفة الأخرى من النهر في بلد الأجداد حتى و لو أنك لا تجيد العوم. ولكن هنا في أرض أوربا نحن ال م.ح. (المسنين الحقيقيين) كنّا قد صنّفنا بشكل نهائي كمخلفات أثرية.
كنا قد تكلمنا أنا و داني آلاف المرات حول هذا الموضوع و في كل مرة كنا نعود إلى نقطة البداية, و كل واحد كان يعود إلى زاويته عابساً دون أن يستسلم. هذا النقاش كان يضايقنا مثل حسك سمك مغروس بين الأسنان في كل مرة أحد من أصدقائنا يتحول إلى "نسخة". النقاش أصبح يتكرر بإستمرار و النبرة بدأت تصبح دائماً أقل أدبية و عاطفية.
هي لم تعد تترك أية فرصة لإبراز ترهلي الجسدي. كانت تفعل ذلك كعرض مشهد كبير بإستعمال عدسة بانورامية مكبّرة مضيفة إليه الحوار و العناوين الرئيسية. كانت تمهد للهجمة بنبرة بريئة و بجمل بمثابة تخدير للألم مثل:"يا عجوزي إنك تهمل نفسك", "يجب أن تأكل أقل في سنك هذه و تعتني بلياقتك", "هل تعرف يا عزيزي, و أقول ذلك لمصلحتك!", و لكي تعطيني الضربة القاضية في النهاية بالجملة العذبة " هل تعرف, في سنك ...!".
يجب أن أعترف بأنني كنت قد بدأت أفقد حقاً عادة العناية بجسدي كما كنت أفعل سابقاً. عندما كنت شاباً, حالما يحين الصيف, كنت لا أستطيع إلا أن أتخيل نفسي على شاطىء مهجور ذو رمال ناعمة, تداعبه أمواج البحر, تحت نظرات إعجاب الفتيات و المراهقات من المتلهفات أمام جسدي المنحوت. عندئذ, بلا مناص, كما في كل الأمسيات, كنت أحشو نفسي بإقتراحات متناقضة ضد عدوي رقم واحد: الشحوم, ثمرة شهية تراكمت خلال الوجبات الشتوية العامرة. "إعتباراً من يوم غد" سأوقف السيارة في مكان أكثر بعداً لكي أمشي مسافة أكبر, ثم لن أستعمل بعد الآن المصعد ولكن السلالم و فوق كل شيء سأتوقف عن التدخين. "إعتباراً من يوم غد" سأتناول في طعام الغذاء فواكه و خضار فقط و في المساء قليلاً من الحساء, و بعد ذلك, ساعتين على الدراجة, ثم حماماً ساخناً قبل الذهاب إلى السرير. كل هذا "إعتباراً من يوم غد": لماذا قضاء ليالٍ تغصّ بالكوابيس, بآلام في المعدة, بصحبة نوبات مألوفة من وجع بواسير مونتي كروفييرا.
في كل مرة كان يقترب بها الصيف, كنت أذهب لأتأمل في الخزانة قمصاني الجميلة التي لم اعد أستطيع أن أزرزرها سوى في الأسفل. أسترق نظرة مليئة بالأمل إلى سراويلي القديمة التي لا تتسع لها أفخاذي و يتملكها العناد في أن تبقى على مستوى الزنار و التي أحتفظ بها "للوقت الذي سأستعيد فيه لياقتي السابقة". " غداً" سأعيد صياغة هذا الجسد الذي كان محط فخري و الذي حسب رأي إكتسب إعجاب دانييلا منذ اللحظة الأولى.
وبلا مناص, كنت أنسى في اليوم التالي على مائدة الفطور كل هذا بينما أدهن الخبز المحمّص بالزبدة قبل أن أمدّ فوقه طبقة لا بأس بها من المربى لكي أشبع جوعي الموروث. اللحم واهن ... و الشحم قاس حتى يذوب!
حتى في ذلك الوقت, كان سائداً الإعجاب الذي يقارب العبادة بكمال الأجسام: لم يعد يوجد أطفال بأسنان معوجّة أو أقدام مسطّحة. كنت أملك أكثر من سبب للتذمر من مخاطر هذا التصوّر, هذه العبادة للجسد الكامل الذي كانت تحمله بطريقة مرضية مثل فقدان الشهية و الإمتناع عن تناول الطعام. دانييلا كانت لا تستسلم أمام تعصبها لجسدها. كانت تقضي ساعات طويلة في النادي و هي تضحي بتعب و عرق على مذبح آلهة النحافة, الجري و كمال الأجسام. كانت قد وصلت إلى وشم نفسها و تعليق خواتم على كل متر مربع من جلدها.
كنت أملك الرغبة بالسخرية:
"عندما أفكر كيف كنتم تصفوننا بالمتوحشين عندما كنا نستخدم هذه الأشياء!".
هي كانت تكتفي برفع كتفيها بلا مبالاة دون أن تعلّق.
لكثرة ما كانت مصرة على تصوراتها, إنتهت بأن تقنعني في الذهاب لمقابلة بطلها: البروفيسور ب. دوللي الشهير.
في النهاية, الزيارة كانت لا تعني وعداً و الوعد لم يكن أكثر من نعم مرتبط بالمستقبل.
الرجل كان يملك عمراً لا يمكن تقديره و أعين رمادية غريبة تشدك إليها و تبدو كما لو أنها تخترقك و تغوص فيك لغاية أعماق نفسك.
البروفيسور دوللي , عالم ذو شهرة عالمية, كان قد طوّر الأسلوب الشهير ت.ذ- إ.ذ.ت. (تحويل ذري – إستنساخ بالذرة – إنتقال ) حيث بدأ يشرحه لي:" أسلوب الإستنساخ هو بسيط جداً. يكفي أن تحصل على بويضة من بي. أو. يو (مصرف البويضات الإنسانية) و خلية من جلدك. نفرّغ البويضة من ال" د.ن.ا." الأصلية. نملئ البويضة المفرغة من نواتها و نستبدلها بطبقات نووية من خليتك الجلدية. البويضة الجديدة التي تم الحصول عليها بهذه الطريقة توضع في جهاز ال "أوتيروترونيكس – فيلوكس", و هو مسرّع للنمو, حيث خلال ثلاثة أيام ينتج نسخة مطابقة عنك تماماً, ولكن أكثر شباباً, و نستطيع أيضاً أن نتحكّم في السن الذي ستكون عليه".
توقفت عن التنفس لأهمس:
"مذهل! كأنه خيال علمي!".
عندما إستعدت أنفاسي, تساءلت:
"و أنا ماذا أصبح؟".
"أنت تبقى دائماً أنت. مورثاتك الجينية تحتفظ بكل خصائصك, حتى بذاكرتك".
"نعم, أعرف ذلك, ولكن أنا, أعني جسدي القديم, ماذا سيحدث له؟".
"في البداية سيحفظ في البراد بإنتظار النتيجة و إذا كان كل شيء على ما يرام النسخة القديمة ستحوّل إلى رماد و إذا شئت يمكنك أن تحتفظ بالرماد للذكرى!".
"إنه لأمر مرعب!".
كانت داني في سابع سماء:
"إنه أمر رائع! إنه التقدم!".
"التقدم, التقدم! أنت لا تملكين سوى هذه الكلمة في فمك! لا أعرف لماذا ولكن ذلك التقدم يخيفني! يبث الرعب في أحشائي!".
صمت. يلفني شك مغم:
"و إذا فشل؟ وإذا حوّلني إلى مسخ؟".
"ليست هنالك مخاطر! بالعكس! الإستنساخ يفتح الباب لتحسين مستوى الرجل, لأنه بطريقة ما سيفسح المجال لتطوير أفضل الجوانب عندك".
نرفزت:
"هذا جنون! من يستطيع أن يعرف أفضل الجوانب, من يستطيع أن يحدد مقياساً هكذا ليستخلص أي صنف من الرجل هو الأفضل, ما هو الحجم الصحيح للطبيعة الإنسانية؟".
"كلا! إنه أمر مدهش! في يوم ما سنستطيع بناء رجلاً كامل المواصفات, التكهن بأمراضه و تفاديها".
"هل تستطيع أن تتصور الإمتيازات التي ستحصل عليها الإنسانية؟", أكّدت دانييلا.
أسئلة شائكة مثل ثمار الصبّار تتحول إلى أفكار تتشبث بدماغي: "ما هي الأخطار التي ستحيق بالأجيال المقبلة؟ كنّا قد رأينا في الماضي الأضرار التي ألحقتها المحاصيل المعدّلة وراثياً . حتماً المحاصيل المعدّلة وراثياً سمحت بالإنتصار على الجوع في العالم ولكن بأي ثمن!
كنّا قد عشنا نمواً فجائياً و غير قابل للتفسير لأمراض حساسية لدى الأطفال, عقم شائع لدى الأزواج مع تزايد الأمراض السرطانية و إنهيار عصبي موهن عام للنظام الوقائي".
صوتي يزداد حنقاً ليعلن دون أن يستطيع الإقناع:
"كلا! في اليوم الذي ستتمكنون فيه من بناء رجال أفضل من الآخرين, كل قيمنا في المساواة و في تساوي الفرص بين الكائنات البشرية ستضمحل".
صمت مشوب بالدهشة.
"إذن الإستنساخ بطريقة ما هو شكل من العنف تجاه أسس الحياة: المغامرة. ما المغزى الذي ستملكه هذه الحياة بدون الدهشة, الإنبهار الذي هو ملحها؟ الوجود أليس هو أيضاً هذا الإستمرار المدهش و الرائع لسبر نفسك و مصيرك؟ ما سيكون عليه مصير حريتي دون تاريخي الشخصي؟ الحياة ستكون حزينة دون وقائع, بدون إستغراب!".
هذا كله كان يحدث قبل شهر مضى.
" الكلاب تنبح ... و القوافل تسير".
أمام رفضي, داني حدّقت في دون أن تراني, مثل قطعة بلاستيك شفافة, لذلك رفعت كتفيها و خرجت من العيادة دون أن تقول شيئاً. منذ تلك اللحظة لم أرها ثانية.
أفتح عيني و نظراتي تلتقي بنظرات الممرضة. تعرفت عليها فوراً. تبتسم لي و تهمس:
"أهلاً بك بيننا! ها هي ملابسك!".
أشعر بكامل لياقتي البدنية ... أشعر بأنني شاباً. ها أنا بشكلي "المنسوخ". تتسلل إلى داخلي الكآبة. أرفع الأغطية, أنظر إلى جسدي العاري: كنت قد صغرت على الأقل عشرين عاماً و كان يمكن ملاحظة ذلك! الممرضة أيضاً إنتبهت إلى ذلك ووجهها إصطبغ بإحمرار ملتهب قبل أن تبتعد متأتأة:
"أنا ... أنا ... ذاهبة لأدعو الطبيب".
أجابت على نظراتي المتسائلة:
"كل شيء سيكون على ما يرام! أخبرت شريكتك كما كنت طلبت مني: هي موجودة هنا في الخارج. تنتظرك".
بقفزة واحدة كنت خارج الحجرة. تعرفت على خيالها في الممر. مشيت ثم بدأت أعدو نحوها. هي أتت نحوي و تعانقنا. لم أعد أعثر على نشوة عطرها. تحتضنني و تملأ وجهي و من ثم شفتاي بالقبلات. لم أعد أشعر بمذاقها. أنظر ملياً في عيونها و أدرك بأنها هي نفسها ولكن قلبي لم يعد ينبض بالراب – هيب – هوب. قلبي ينبض فقط كعضلة خاوية! لا أشعر بأي شيء آخر! أشعر بأنني ضائع. يصيبني شيء كالدوار. أبحث حولي عن شيء ملموس لأتعلق به.
أرى الممرضة خلف دانييلا. تبعث إلي بتحية قصيرة بإصبعها و تغمزني. تستدير و تبتعد. نظراتي تتبع خطوط جسدها الملتوية التي تتوازن بإنتظام و هنا فجأة عضلتي القلبية بدأت تغني الراب-هيب-هوب.


كوسّي أ. كوملا- إبري من مواليد توغو عام 1954. طبيب – جراح, يعيش في إيطاليا منذ عام 1974. عضو في هيئة تحرير "القبلي" و مدير سلسلة "أدب الإغتراب" التي تصدرها دار نشر "إدي آركو". من مؤلفاته: " إحراجات – إحراجات يومية بالأبيض و الأسود" (منشورات ديل آركو – مارنو 2002) رواية " نايلة " (منشورات ديل آركو – مارنو 2002), المجموعة القصصية " تقاطع الدروب " (منشورات إمي- بولونيا 2003) :" إحراجات جديدة – إحراجات يومية بالأبيض و الأسود" (منشورات ديل آركو – مارنا 2004) و قصص نشرت في أنطولوجيات متفرقة. مؤخراً نشر القصة الطويلة " عروس الآلهة " (منشورات ديل آركو – مارنا 2005). لمزيد من المعلومات يمكن زيارة موقعه:
www.kossi-komlaebri.net

ترجمة: يوسف وقاص

Home | Archivio | Cerca

Internazionale

 

Archivio

Anno 3, Numero 14
December 2006

 

 

©2003-2014 El-Ghibli.org
Chi siamo | Contatti | Archivio | Notizie | Links