El Ghibli - rivista online di letteratura della migrazione

عربية / english / español / franais



حديقة الطفولة

بقلم: ناتاليا سولوفيوفا

حديقة طفولتي كانت تنمو تحت تأثير كوكبين أساسيين: الشمس, و هي كانت تمثل أبي, و القمر الذي كان ينوب عن أمي. أبي و أمي كانا يتواجدان سوية يوم الأحد و أيام الأعياد فقط, بينما في بقية الأيام, عندما كان يتواجد الأول, الثاني يكون غائباً, و بالعكس. هذا التناوب في العناية بي كان مردّه إلى الاختلاف في ساعات العمل لكليهما. أمي كانت طبيبة أمراض داخلية و كانت تخرج في الساعة السابعة صباحاً لتذهب إلى المستشفى. كانت تقطع ثلاثة كيلومترات في أزقة ضواحي موسكو بخطوات سريعة, مختصرة بهذا مسافة الطريق. لو استقلت الترام لكانت استغرقت نصف ساعة أكثر لقطع نفس المسافة. كانت متمرسة في المشي و هذه المقدرة لازمتها حتى أواخر عمرها.
بينما أبي كان مُقعداً من الحرب دون إذن بالعمل, و هذا يعني بأن الأطباء كانوا يعتبرونه حالة ميئوس منها. كان يتقاضى من الدولة أدنى راتب تقاعدي, و لكي يساعد العائلة كان يشتغل كحرفي في البيت. هو الذي كان يوقظني في كل صباح.
ذكرياتي تعود إلى الحقبة التي كنت أملك فيها سنتين و نصف من العمر, عندما كان يظهر وجه أبي البشوش و رأسه الأصلع تقريباً و أنا غارقة في دفء النعاس الصباحي (كان قد بدأ يفقد شعره منذ أن كان شاباً)
كان مسروراً من تلك المهمة, أي إيقاظي. كنت أجد المدفأة مشتعلة, و أحسّ برائحة الدخان و طقطقة الخشب الذي يتوقد, بينما الشمس الصباحية كانت ترسل ضياءاً زائغاً عبر النافذة ذات الزجاج المكسو بالجليد تقريباً.
أثناء النهار, عادة ما كان ينقشع الجليد, ولكن أثناء الليل كان يتشكل من جديد.
وجه أبي المحني فوقي كان يغمرني بالسعادة, كنت أمسك بتلابيب الخصلات القليلة المتبقية من شعره و أشدها. كان ذلك أسلوبي في التعبير له عن عواطفي. كنت أحس في داخلي بسعادة لا توصف, و كنت أتذوق نهاراً رائعاً, مليئاً بالضوء, بالثلج و بجرينا السريع على الزحافة.
كان أبي يلبسني ثم يحضّر طعام الفطور لكلينا. و فيما بعد كان ينظف الطاولة من الطبق الصغير الذي يحتوي على قشور بيضتين و من الفنجان الفارغ الذي تركته أمي قبل أن تخرج بسرعة. و لكي يجعلني أصل إلى مستوى الطاولة, كان أبي يسندني على وسادتين فوق الكرسي و كان يربطني على المسند بحزامه العسكري. ذات مرّة كنت قد جربته على جلدي, عندما عصيت أمي و أنا في الثالثة عشر من عمري.
أبي كان يجلب من المطبخ طبقين من الكاشا ( مخلوطة الشوفان ) محضران لتوهما و يتصاعد منهما البخار بعد, و بعضاً من الشاي الساخن. كنا نتناول طعام الفطور و نحن جالسين الواحد تجاه الآخر. هو كان سريعاً جداً. كان ينتهي من تناول طعامه في أقل من دقيقتين, و بينما أنا لا أزال أحاول أن أستخرج بالملعقة من المرطبان المربى الذي كانت قد حضّرته أمي, هو كان يذهب إلى عتبة الغرفة حيث كانت توجد ماكينة الكنزات. كان يضع الخيوط في مكانها و يبدأ بالحياكة. الماكينة كانت يدوية. أبي كان يدير العجلة المعدنية بذراعيه و كان ينقلهما من اليمين إلى اليسار, من اليسار إلى اليمين, من اليمين إلى اليسار.
كنت أنتهي من تناول المربى و أذهب لأراقب أبي و هو يعمل. كانت رائحة الزيت تفوح من الماكينة. كنت اجلس بقربه على السجادة و أحدّق في جبينه الذي كان يزخر بحبيبات العرق و رأسه المدوّر الذي كان يلمع مثل المدفأة المغطاة ببلاط برّاق. بعد فترة وجيزة كان يخلع قميصه لأنه يحسّ بالحرّ. كان يملك ذراعين ضخمين و مفتولين, و ذو عروق منتفخة. على الجانب الأيمن, من العنق حتى الكتفين, كانت تبرز ندبة بنية.
كنت أعرف بأنه عندما كان في الجبهة كانت شظية قنبلة قد إخترقت عنقه و رست في الرئتين. جدتي كانت تقول بأنه يعيش بمعجزة. عندما كنت أساله عن حجم الشظية, كان يشير إلى ظفر إبهامه.
ذات يوم , آخر من كان رأى النور من قطة جيراننا خدشني بينما كنت أحاول أن أذوّقه قليلاً من المربى. كان قد آلمني, و خرج الدم من الخدش. عندما فكرت بالمخلب الصغير للقط و بالشظية التي أصابت والدي, تخيلت أسداً و هو يغرز مخالبه في عنقه.
عندما بلغ عمري ثلاثة سنوات بدأت في ارتياد روضة الأطفال. لا زلت أذكر ضجيج الترام و صريره فوق السكك المتجلدة في قلب الشتاء. بعد أن صعدت بجهد الدرجات الثلاثة بمساعدة أبي, وجدت نفسي داخل العربة المزدحمة بالناس. النوافذ كانت مغلقة ومكسوة بالجليد,. الجو كان يفوح برائحة المعادن و الألبسة الصوفية, و أنا كنت أفكر بأن الناس يتنفسون لكي يدفئوا الترام.
أبي كان يسألني:" هل يديك باردتين؟ ". كنت أجيب بنعم حتى عندما كنت لا أشعر بالبرد. هو كان ينزع من يدي القفازات و يدفئهم بلهاثه., كان يقول لي شيئاً مرحاً و يضحك. كان يبدو و كأنه يدفئ المحيط حوله أيضاً.
في تلك الحقبة, كانت قفازات جميع الأطفال في روسيا مربوطة بالمطاط. على الأرجح, إحدى الأمهات اليائسات كانت قد اعتمدت هذا الحل بعد أن تكرر فقدان القفاز للمرة المائة لأحد من أبنائها الكثيرين. كان يستعمل لهذا الغرض قطعة مطاط عادية و يحاك من أحد أطرافه على حافة القفاز الأيمن و الطرف الآخر على حافة القفاز الأيسر. كان المطاط يعلّق على رقبة الطفل مثل الوشاح بعد أن يرتدوا القفازات. و بعد ذلك, كان الطفل يرتدي المعطف, و في أثناء اللعب, عندما كان الطفل يشعر بالدفء و ينزع قفازا ته بطريقة لا إرادية, كانت تبقى معلقة بالمطاط و لا تفقد. طفولتي الأولى كانت قد انتهت عندما توقفت أمي عن وضع المطاطات لقفازاتي, و شعرت حينذاك بأن مسؤولية عدم فقدانها باتت تقع على عاتقي.
حالما كنا نصل إلى موقف مدرسة الروضة كنا ننزل من الترام. أنا كنت أركض أمام أبي, و هو كان يتظاهر اللحاق بي. كنت لا أشعر بالبرد القارس, و كان يتراءى لي و كأنني أسبح بين طيات الهواء الشتوي, البارد و الكثيف كماء النهر في قرية عمي. كنت أضحك بسرور و كان يتراءى لي بأنني أصبحت كبيرة, جميلة و جذابة جداً. قرأت في مكان ما بأن أول رجل يجعلك تشعرين بأنك أنثى هو أباك, و هذا صحيح. في الثالثة من العمر, كنت سعيدة, محبوبة و مسرورة. إذا كانت أنوثتي قد أصبحت فيما بعد مستقرة و مرضية, فالفضل يعود لأبي, لحنانه و صبره.
الصداقة المترسخة فيما بيننا دامت ثلاثون عاماً تقريباً, لغاية ما رحل. ذات مرة, عندما كان يشكو من مرض القلب بعد, بينما كنا نتمشى في الشارع, صادفنا عجوزاً يمشي متكئأً على عصاه, كان ظهره محنياً لدرجة أنه كان مضطراً لأن لا يرفع ناظريه عن الأرض. إكفهر وجه والدي:" لا أريد أن أكون مثله", قال و هو يشير بنظراته نحو العجوز الذي كان يجرجر قدميه أمامنا.
لم يكن يرغب في العيش و هو مضطر لأن ينظر دائماً نحو الأرض: كان قد ولد لأن يكون محاطاً بالسماء الزرقاء, كنجمة صغيرة, كالعصافير التي كان يحبها كثيراً و يتبعها بنظرات مليئة بالإعجاب من تحليقها الحر, دائماً نحو الأعلى. كان إنساناً بسيطاً, ذو تجربة كبيرة في الحياة: كان يستطيع أن يوازن القوى المتضادة بيني و بين أمي, بين أمي و أقربائها. كان المحرك لأجمل الأمسيات التي قضيتها مع أبناء عمومتي: ألعاب, أغان, ضحك و مرح.
كان يحب المساحات المفتوحة, الآفاق البعيدة و اللامتناهية.
و السماء التي أحبها كثيراً, أصغت إليه. مات مستقيماً و جميلاً, كشجرة بترت فجأة: شمس صغيرة مليئة بالدفء و بالضياء كانت قد إنطفأت. كان لا يريد أن يتحول إلى عجوز و لم يصل إلى تلك السن.
في تلك الأعوام, عندما كنت صغيرة جداً بعد, كنا نعيش في بيت خشبي في أحد ضواحي موسكو. البيت كان مؤلفاً من غرفتين متواضعتين حيث كانت جدتي من أمي قد اشترتهم بعد الاستيلاء على بيتها الكبير.
زوجها كان خورياً لبلدة قريبة من موسكو. أثناء حكم ستالين نفي إلى سيبريا, و أولادهم الثمانية أجبروا على التشتت في أنحاء البلاد.
أمي التي كانت صغرى الأولاد, بقيت مع جدتي. كانت تعمل كممرضة في أحد مستشفيات موسكو, و كانت تدرس في الليل لتكون طبيبة. الجدة ماتت قبل الحرب بقليل, و أمي تطوعت لتلتحق بالجبهة و هنالك تعرفت على أبي و تزوجته.
كانت طويلة و رشيقة, و ذات وجه متطاول و شاحب. عندما ولدت أنا, كانت نحيفة جداً. كانت تملك شهية كبيرة للطعام, ولكنها كانت تكتفي بالقليل لتدعنا نأكل أكثر أنا و أبي. منذ أن كان عمرها خمسة عشر عاماً كانت قد أجبرت على أن تخفي الحقيقة حول نفي والدها, و هذه الصدمة أثرت كثيراً على سلوكها مدى الحياة. كانت محافظة جداً, و كانت محاطة بهالة من الغموض. منذ أن كنت طفلة, كان هدفي هو اكتشاف كل ما كان يعكر صفو حياة والدتي و كل ما كان يتعلق بالحياة المعذبة لعائلتها.
كانت تملك شخصية غير مستقرة, بارتفاعات و انحدارات مثل المد و الجزر, حيث كنت أشعر بتأثيرها و هي تتموج حولي و حول أبي.
كانت تبدو باردة لأول وهلة, بعكس وهج أبي. كانت تملك هبة فهم الآخرين, و مقدرتها هذه ساعدتها أثناء أعوام المحن في عهد النظام, عندما ملايين من النساء و الرجال اليافعين, كانوا قد أرسلوا إلى المعسكرات النائية للأشغال الشاقة بسبب خطأ تافه, بسبب ألفة في غير مكانها, بسبب نكتة سياسية. بسبب لا شيء.
كانت قد تعذبت كثيراً, و في أواخر حياتها خضعت شخصيتها لتحول ملحوظ: إختفت التقلبات, بينما إحتفظت بهدوئها و دبلوماسيتها.
أثناء طفولتي كنت متعلقة بأمي بطريقة غير معقولة, كأن حبل السرّة بيننا لم ينقطع أبداً. لحسن الحظ, مع مرور الوقت, هذا الإرتباط تحول إلى حب كبير. لقاءاتنا و فراقنا إبتدأوا عندما كنت أملك ثلاثة سنوات.
أطفال الروضة التي كنت أرتادها حينذاك كانوا ينقلون في كل صيف إلى البيوت الخشبية في الريف, بمحاذاة الغابات و البحيرات و الأنهار. هذه الأماكن كانت رائعة. أمي كانت تأتي لزيارتي كل سبت و كانت تبقى معي لغاية يوم الأحد.
في الليلة ما بين يومي السبت و الأحد, كنت أنام معها قي السرير الكبير داخل البيت الريفي الذي كانت تستأجره لنهاية الأسبوع. كانت تصغي إلي حتى ساعة متأخرة من الليل و أنا أروي لها كيف قضيت أيام الأسبوع, و هي بدورها كانت تقص علي حكايات ابتدعتها في تلك اللحظة. أثناء النهار كانت تصطحبني للنزهة , و في ساعات النهار القائظ كنا نلتجئ إلى ظل الغابة القريبة. كانت تكشف لي الإيقاع السري للطبيعة, حيث هي كانت تسترقّه بفضل ميولها التأملية.
كنا نجمع باقات من الأزهار البرية , و هي كانت تصنع إكليلاً و تضعه على رأسها. إنها عادة روسية قديمة, تقاليد من العهود الغابرة. الإكليل الذي كانت تضعه على رأسي كان يسقط بإستمرار, و أنا كنت أتركه معلقاً حول عنقي, مثل أناس القبائل البدائية.
كنا نمارس سوية لعبتي المفضلة, متظاهرين بأننا حوريات و ملكات. أذكر القميص و البنطلون القصير اللذين كنت أرتديهما أثناء الصيف, أمي كانت ترتدي السارافان, و هو ثوب طويل بلا أكمام, منمق بأزهار زرقاء ناعمة على خلفية بيضاء, و شالاً خفيفاً يغطي أكتافها.
فوق هضبة صغيرة بين الأشجار المعمّرة, حيث كنا قد إخترناها كمنصة, كنا نختلق قصصنا الأسطورية.
" أنا الملكة و أنت الحورية", كنت أقول و أنا أرتّب الإكليل. " أعطني شالك ". الشال كان يمكن أن يتحول إلى تنّورة جميلة تليق بملكة, بعد أن تشدّ بشريط.
في أحد الأيام سمعنا تصفيق عابر سبيل من خلف لأشجار.
" تهانيّ يا سيدتي, لك و لإبنتك. أنتما جميلتين جداً معاً "
أمي أجابته بضحكة رنّانة كالأجراس الصغيرة عندما تحركها النسمات الخفيفة: كانت تبدو مثل حورية حقيقية بإكليل الورود الذي كانت تحمله على رأسها. كانت أياماً لا تنسى, كنا خلالها لوحدنا دائماً, أنا و أمي. حتى أبي كان مستثنياً من هذا التلاحم, عندما كنت أملك أمي, كانت كلها لي.
في مساء يوم الأحد كانت تمشي ثلاثة كيلومترات على قدميها لغاية المحطة لتعود إلى المدينة. حددنا النقطة التي كنت أستطيع مرافقتها: هنالك كنت أطلب منها أن تعود و ترافقني. و هكذا لثلاثة, أربعة و خمسة مرات, لغاية ما تتدخل عمتي ,التي كانت مديرة الروضة, حيث كانت تمسكني من يدي و ترغمني على ترك أمي, التي كانت تمضي في سبيلها دون أن تنبس ببنت شفة, و عينيها مغرورقتين بالدموع.
رقّة شعور أمي لم تقلّ مع مرور السنين, و حتى إلى وقت كثير فيما بعد, عندما كنت قد تزوجت و أصبح لدي أطفالاً, علاقاتنا كانت مؤلفة من لقاءات و إفتراقات مستمرة. كل رحلة لي إلى موسكو و كل إقامة لها في إيطاليا, كانا يتصّفان بسعادة اللقاء الكبيرة و ألم الوداع.
البيت الذي قضيت فيه طفولتي, بالمدفأة المتقدة و النوافذ المتجلدة تقريباً, بقي في ذاكرتي كمكان للهدوء و للطمأنينة. و عندما كانت مصاعب الحياة تحبط عزيمتي, كنت أعود بخيالي إلى ذلك المكان, أقرفص فوق السجادة بجانب والدي, أصغي إلى جلبة ماكينة الكنزات القديمة, أشمّ رائحة الحطب الذي يشتعل و بذلك كانت تنتابني الراحة.
عندما أنظر نحو السماء و أرى الشمس التي تغيب على يساري و القمر الشفاف و المرئي جداً على يساري, يتراءى لي و كأنني ألمح من بعيد وجه أبي البشوش و إكليل الورد فوق رأس أمي. الآن هم سوية, متحدين مع بعض: هذا كان يحدث نادراً عندما كنت طفلة. معاق حرب و إبنة خوري منفي هم الآن هناك, في سماء طفولتي, لكي لا يغيبوا ثانية أبداً.

ترجمة: يوسف وقاص


ناتاليا سولوفيوفا من مواليد موسكو 1946. تعيش في بلدة " كاردانو الكامبو (فاريسه) منذ عام 1973. مهندسة ميكانيك و تعمل في حقل الترجمة التقنية. إشتركت في مسابقة إكس & ترا و هي من فائزات إصدار 1998.

Home | Archivio | Cerca

Internazionale

 

Archivio

Anno 2, Numero 11
March 2006

 

 

©2003-2014 El-Ghibli.org
Chi siamo | Contatti | Archivio | Notizie | Links